وقد بدأ التشكيل التنظيمي المؤسسي لمصطلح الأمن القومي بصدور قانون الأمن القومي لعام 1947 عن الكونجرس الأمريكي، أما بقية دول العالم فقد وضعت عنواناً آخر هو “الدراسات الاستراتيجية” على الأدبيات التي عالجته بوصفها اجتهادات في التخطيط السياسي النشط حول المستقبل، بدلاً من اجتهادات تعني ضمنياً محاولة لصياغة أجوبة أو ردود فعل بقصد حماية السيادة. وكأي مصطلح أو مفهوم، فإن مفهوم الأمن القومي لا يمكن التوصل إلى تحديد دقيق له خارج نطاق المكان والزمان الذي يتحرك من خلاله، وهو يخضع دائماً للتعديل والتطوير انسجاماً مع المتغيرات والعوامل التي تؤثر في بروزه إلى مسرح التداول.
وهكذا أصبح الأمن القومي فرعاً جديداً في العلوم السياسية، حيث امتلك ثقافة وتوفرت له المادة والهدف العلمي (تحقيق الأمن) وإمكانية الخضوع لمناهج بحث علمية، بالإضافة إلى كونه حلقة وصل بين علوم عديدة، فالأمن القومي ظاهرة مركبة متعددة الأبعاد تربط في دراستها بين علوم الاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية ونظم الحكم وغيرها، كما تتطلب الاستفادة من المناهج المختلفة وقدراً أكبر من التكامل المنهاجي. وقد انتقل الاهتمام بظاهرة الأمن القومي من الغرب إلى دول الجنوب. ويذكر الباحثون عدة أسباب لزيادة الاهتمام بدراسة الأمن القومي في مختلف دول العالم، بما يمكن اعتباره ظاهرة، ومن أهم تلك الأسباب:
1- التوسع في مفهوم المصلحة القومية ليشمل مسألة ضمان الرفاهية بما يعنيه ذلك من تأمين لمصادر الموارد، ومن ثم برز مفهوم الأمن القومي كتعبير عن كل من الرفاهية من ناحية، ومحاولة ضمان مصادرها الخارجية من ناحية أخرى، وحماية الترتيبات الداخلية التي تدفع إلى زيادة معدل الرفاهية من ناحية ثالثة.
2- ازدياد معدل العنف وتصاعد حدة الصراعات المباشرة والتي قد تتطور إلى حروب، ومن ثم سار الاهتمام بالأمن القومي في موجات ارتبطت بتزايد الصراعات على المستويين الإقليمي والدولي.
3- ازدياد الشعور لدى دول الجنوب بنوعين من التهديدات المتصلة بأمنها القومي. فمن ناحية، تُعد الديون الخارجية المستحقة عليها تهديداً لأمنها السياسي والاقتصادي، وتحد بالضرورة من حرية اتخاذ القرارات الاستراتيجية. ومن ناحية أخرى، تخشى الدول الصغرى من احتمالات قيام الدول الكبرى بإساءة توظيف المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ليس فقط لتحقيق مصالحها، ولكن للإضرار بمصالح الدول الصغرى وأمنها القومي.
4- تزايد الإحساس بالقلق والتوتر الداخلي والذي يمكن أن يتحول إلى مظاهر عديدة من عدم الاستقرار وعدم الأمن في الدول الصغرى، فلا تزال تلك الدول تعاني من مشكلات كبرى في عملية الإنتاج وكذلك عملية التوزيع.
5- يُثار الاهتمام بظاهرة الأمن القومي عند التحول من نظام الدولة القومية إلى نظام أوسع وأكثر شمولاً كالنظام الفيدرالي، أو التجمعات الاقتصادية الدولية.
تستحوذ مسألة الفساد على اهتمام أوساط متزايدة، نظرا لانتشاره الواسع في أوساط كل دول العالم، وانعكاساته الخطيرة على التنمية وحقوق الأنسان، وصلته الوثيقة بالكثير من التحديات والمخاطر التي تمس أمن الأفراد والجماعات والدول والأمن الدولي. وباتت بعض الدول تعتبر مكافحته أولوية لأمنها القومي نظرا لحجم تأثيره على المصالح الوطنية العليا، وتسعى جاهدة لوضع الاستراتيجيات والخطط الأمنية
6- يُثار موضوع الأمن القومي في حالة تفكك الدول الكبرى وخاصة الفيدرالية إلى دول قومية مستقلة ذات سيادة.
يتم في الجزء التالي دراسة مختلف الجوانب المتعلقة بتعريف مفهوم الأمن القومي وتحديد أبعاده، وذلك من خلال دراسة عدة موضوعات، من بينها تعريف مفهوم الأمن القومي، واستعراض أهم مدارس الأمن القومي، أي النظريات والمدارس المختلفة التي تناولت دراسة الأمن القومي من زوايا مختلفة: (عسكرية، اقتصادية، مجتمعية ….الخ)، بالإضافة إلى دراسة المستويات المتعددة للأمن القومي، سواء على المستوى الداخلي أم على المستوى الخارجي (الإقليمي والعالمي)، وحدود التداخل والتشابك بين تلك المستويات. سبة لمواجهته حفاظا على أمنها واستقرارها وازدهارها.
فما علاقة الفساد بالأمن القومي؟ وما المخاطر والتهديدات التي يتضمنها انتشار واستشراء الفساد على الأمن وانعكاساته وتداعياته على غايات ومرتكزات الأمن وأبعاده ومجالاته المختلفة؟ ولماذا تستدعي المصالح الوطنية العليا اعتبار مكافحة الفساد أولوية للأمن القومي؟ وما هي المناهج والاستراتيجيات الفعالة لمكافحة الفساد والحفاظ على الأمن القومي وصيانته؟
الأمن حاجة إنسانية ارتبطت تاريخيا ولا زالت ترتبط بسعي الأنسان من أجل التحرر من الخوف والعوز والفاقة والجوع والانكشاف والوهن. وبالنظر إلى امتداد وترابطات هذه المفاهيم، نجد أنها على صلة مباشرة بالبقاء الانساني والكرامة الإنسانية والتنمية والاستدامة الإنسانية. ونظرا لنشأة ظروف وعوامل اجتماعية إلى جانب الطبيعة،
أضافت قوى خوف وخضوع جديدة، تمس حاجات الانسان وتشكل خطرا على حريته وكرامته وعلى المساواة بين الناس، تولدت الحاجة لعقد اجتماعي لحماية أمن الانسان والحفاظ على الصالح العام، وهو ما انيطت وظيفة القيام به لحاكم يتولى سلطة تتمتع بحق ممارسة القوة المستمدة من ارادة الناس (الشعب). وهكذا ولدت الدولة، كما أوضح الفلاسفة أصحاب العقد الاجتماعي، ومنهم جان جاك). وقد تبلورت تنظيرات لاحقة حول الأمن، انطلاقا من مفهوم العقد الاجتماعي، الذي عالج مفهوم المجتمع كحالة سابقة للدولة، لها الحق في حماية ذاتها من التهديدات الوجودية والتهديدات المتعلقة بحريات الأفراد وأمنهم، حيث يشكل ذلك عملية تاريخية تفضي الى الدولة كعقد اجتماعي
ولكن التطور الذي حصل على صعيد مفهوم الأمن بعد تشكل الدولة القومية في أوروبا، والذي تكرس مع صلح ويستفاليا عام 1648، أرسى نظاما أمنيا قائما على سيادة الدول، مما جعل التعامل مع الأمن القومي يأخذ منحى الأمن الوطني والقومي، وجرى اقصاره على الأمن العسكري والاستخباري المعلوماتي والسياسي، بمعنى أمن الدولة، المعتمد على القوة الصلبة، اللازم والضروري لحماية الدولة والحاكم من التهديدات الداخلية والخارجية. وهو ما برر سباق التسلح والحروب والتوسع. وقد تطور المفهوم ارتباطا بأهدافه ووسائل وطرق الوصول إليه وضمانه وصيانته، والتي على صلة بالمفهوم البسيط المشار اليه آنفا، أي التحرر من الخوف والجوع والفقر، ولكن ببعد أعمق وأوسع، اعتبر الأمن بحد ذاته هو تنمية- كما أشار ماكنمارا، وهو ما عني ضرورة التعامل مع تحقيق الأمن عبر سياسات تنموية واقتصادية، وقضايا متصلة بالرفاه الاجتماعي، وأن تجري تلبية متطلبات تلك التنمية بعيداً عن متطلبات العسكرة والقوة العسكرية والاستقطابات الأيديولوجية والإنفاق العسكري المفرط
وفي تحديث المفهوم، جرى التوسع في النظر للمصالح التي يراد الحفاظ عليها وصيانتها، مما وسع مجالات وأبعاد الأمن، جاعلا منه بمثابة مجال متقاطع وخيط يخترق كل المجالات الأخرى ويتجلى فيها، عبر ديناميكية خاصة، مما وفر أساسا للشمول من جهة، وللتخصص الأمني من جهة أخرى، وهو ما وسع النظرة للأمن وجعل التعامل معه كأمن شامل: سياسي واقتصادي واجتماعي وعسكري وقانوني وثقافي وبيئي وتكنولوجي، واضيف اليها مؤخرا السيبراني
“القدرة التي تتمكن بها الدولة من تأمين انطلاق مصادر قوتها الداخلية والخارجية، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية، في شتَّي المجالات في مواجهة المصادر التي تتهدَّدُها في الداخل والخارج، في السلم وفي الحرب، مع استمرار الانطلاق المؤمَّن لتلك القوى في الحاضر والمستقبل تحقيقا للأهداف المخططة”
وفكرة القومية قديمة قدم الاجتماع البشري. وقد عبّر عنها ابن خلدون بفكرة العصبية. وعناصر القومية لدى أغلب مفكري القومية العرب هي الأرض المشتركة، والتاريخ، والثقافة المشتركة، والمصالح المشتركة، أما قضية تأسيس القومية أو بالأحرى بناء الدولة القومية فهي القضية محل الاختلاف، فهناك رأيان حول علاقة القومية بالدولة، الأول يرى أن الدولة تجسيد لمعنى القومية . والرأي الثاني يفصل بين القومية والدولة القومية . ويرجع ذلك الخلاف إلى أن القومية كيان اجتماعي تتوافر فيه المقومات الأساسية السابقة. ومن الطبيعي أن يتجه ذلك الكيان إلى إنشاء نظام سياسي يصبح وعاء له، إلا أن ذلك لم يحدث دائماً بالضرورة في كل القوميات، فهناك قومية مجزأة، أو مستوعبة بجانب أخرى في دولة واحدة، وهناك قومية بلا دولة. فالقومية تنتمي إلى طائفة من الظواهر التي تتعلق بعملية تحديد هوية أو انتماء جماعات من الناس. وتتمايز عملية تكوين الهوية أو الانتماء إلى مستويين: ذاتي وموضوعي. ويشير المستوى الذاتي إلى اللغة والتاريخ والمصالح المشتركة. ويشير المستوى الموضوعي إلى الإقليم السياسي ونظام الدولة، وعندئذ تنشأ الدولة القومية، تعبيراً عن كيان اجتماعي تجسد في وعاء سياسي هو الدولة.—
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا