الروح ـ تلك النفخة الإلهية التي حملت الإنسان من التراب إلى السمو، ومن الجمود إلى الحياة. إنها سر إلهي يلامس أعماق الوجود، ويقف عند حدود العقل البشري.
لطالما أرق هذا السؤال العقول، وجعل الفلاسفة والعلماء يتأملون طويلاً، فجاء الرد الإلهي في كلمات خالدة:
“وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” (الإسراء: 85).
رد مهيب يضع الإنسان أمام محدودية علمه، ويذكره أن الروح ليست سوى سرّ من أسرار الخالق، لا تحيط به عقول البشر، ولا يدرك كنهه سوى الله.
"الروح - سر السمو الإنساني"
حين قال الله للملائكة:
“فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” ( الحجر 29)
كان ذلك إعلانا عن مكانة الإنسان وسموه بين المخلوقات.
الروح هي التي تجعل الإنسان قادرا على التفكير، الإبداع، والعروج فوق قيود المادة.
إنها الحياة التي تدب في القلب، والنور الذي يضيء الوجود.
لكنها ليست مجرد نفخة حياة؛ بل هي الأمانة الكبرى
كما قال تعالى:
” “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ” (الأحزاب: 72).
إنها أمانة تعبر عن ارتباط الإنسان بربه، تزكو بالطاعة وتنكسر بالمعصية.
“الروح لا تفنى، بل تنتقل من عالم إلى آخر”.
إذ يقول الله تعالى:
“وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ” (آل عمران: 169).
تلك الأرواح التي تفارق أجسادها، تظل حية في عوالم لا تدركها الأبصار، شاهدة على أعمالها، ومنتظرة لقاء ربها.
“لروح والنفس: نفخة سماوية وصراع إنساني”
الروح ـ هي نفخة من أمر الله، لا يمسها التحول ولا تغيرها أحوال الدنيا، إنها الوجود الإلهي في الإنسان، النقاء الخالص الذي يبقيه متصلاً بالسماء.
يقول الله تعالى:
“قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (الإسراء: 85).
إنها السر الذي يهب الحياة للجسد، فتجمع بين الطين والنور في انسجام لا يدركه العقل البشري.
أما النفس، فهي الميدان الذي تصطرع فيه قوى الخير والشر، وهي الكيان الذي يتحمل مسؤولية العمل والمصير.
يقول الله تعالى:
“قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (10) الشمس.
النفس تتأثر، تركي بالطاعة أو تنحرف بالخطيئة، بينما الروح تبقى جوهرا سماويا نقيا لا يتبدل.
الروح أعم وأشمل من النفس، فهي أساس الحياة، بينما النفس هي انعكاس السلوك والأخلاق.
ولعل النفس هي الموكلة بالمحاسبة، حيث تسأل عن كل صغيرة وكبيرة:
“كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” (المدثر: 38).
أما الروح، فهي أمانة تسلم إلى بارئها عند الموت، شاهدة على ما فعلت النفس في الدنيا، وهي مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
النفس قد تتردد بين الطمأنينة والقلق، لكنها تجد السكينة حينما تسمو بروحها نحو الله.
ولعل أعظم تعبير عن هذا السمو ما جاء في قوله تعالى:
“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً” (الفجر: 27-28).
"هل للكائنات الحية روح أم نفس؟"
الكائنات الحية تمتلك “نفسا” تحركها وتؤدي بها وظائفها، لكنها لا تحمل الروح التي منحها الله للإنسان.
فالإنسان هو الوحيد الذي كرمه الله بالنفخة الإلهية، قال تعالى:
“وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ” (الإسراء: 70)
وجعله مكلفًا بالأمانة ومسؤولًا عن أفعاله يوم القيامة.
أما الكائنات الأخرى، فهي أمم مثلنا تؤدي أدوارها في الكون.
كما قال تعالى:
“وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم” (الأنعام: 38).
لكنها لا تُكلف بالعبادة كما كُلف الإنسان، بل تؤدي رسالتها في الكون.
وختاما: عندما تضعف الأجساد، وتنهار العظام، يبقى للروح شأن آخر.
إنها النور الذي لا ينطفئ، والشعلة التي لا تخبو.
يقول الله تعالى: “وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (الزمر: 68).
أرواحنا ستعود يوم القيامة، شاهدة علينا، معلنة عن كل خطوة خطوناها في حياتنا.
فلنزك أرواحنا، ونسعى للسمو بها، حتى نكون ممن يقال لهم يوم القيامة:
“ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ” (الحجر: 46).
والله سبحانه وتعالى اعلي وأعلم