لم تكن أمريكا وسيطا نزيها في أية مفاوضات بين العرب وإسرائيل، بل هي دائما في خندق المفاوض الإسرائيلي وإلى جواره، وتجتهد لصالحه، منذ مبادرة روجرز وكامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة وإلى اليوم، وقبلها لم تكن بريطانيا وسيطا بين العرب وإسرائيل في المفاوضات التي سبقت نكبة 1948، وتلك التي أعقبتها، هكذا يقول التاريخ، لذلك لم يكن مفاجئا أن يكشف وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن عن وجهه الصهيوني، وينحاز لمطالب نتنياهو التي تنسف صفقة المفاوضات مع حماس، وتجعلها غير ذات موضوع، رغم أنها في الأصل صفقة إسرائيلية أمريكية.
وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن قد أعلن في 31 مايو الماضى القواعد الأساسية لهذه الصفقة، التي تتضمن وقف إطلاق النار في غزة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي، وتبادل الأسرى، وإعادة الإعمار، ثم قدم الصفقة إلى مجلس الأمن وصدر بها قرار دولي رقم 2735 في 10 يونيه الماضي، وتواترت تصريحات بايدن بأن وقف إطلاق النار سيكون فوريا ومستداما، والانسحاب الإسرائيلي سيكون شاملا وكاملا، وأنه لن يقبل بوجود إسرائيلي في غزة، أو باقتطاع أجزاء من غزة لإقامة مناطق آمنة حول المستوطنات الإسرائيلية، ومن ثم وافقت حماس على الصفقة.
لكن نتنياهو أخذ يتفلت رويدا رويدا من كل الالتزامات، ويفرض شروطا جديدة تضمن بقاء قواته في محاور غزة وعلى حدودها، مع رفضه القاطع لوقف الحرب، وظلت أمريكا تواجه هذا التفلت بصمت يثير الشكوك، إلى أن خرج بلينكن الأسبوع الماضي معلنا تأييد أمريكا الكامل لمطالب نتنياهو.
وقد اعتبر الانقلاب المفاجئ في الموقف الأمريكي خيانة مفضوحة لإعلان بايدن، ولقرار مجلس الأمن، وهي خيانة متوقعة ومكررة تاريخيا، فأمريكا لا يمكن أن تنأى بنفسها عن إسرئيل، وهي شريك أساسي معها في حربها ومفاوضاتها، وغزة لم تكن تحارب إسرائيل وحدها طوال الشهور العشرة الماضية، وإنما تحارب إسرائيل وأمريكا، ومن ورائهما الغرب كله، ولم تكن تفاوض إسرائيل وحدها، وإنما تفاوض إسرائيل وأمريكا، ومن ورائهما الغرب كله، بما يملكون من قوة اقتصادية وعسكرية ونفوذ سياسي ودهاء استراتيجي، وقدرات فائقة على التخطيط والتدبير والمكر السيئ.
وقد أصيب بعض منا بالصدمة من انقلاب الموقف الأمريكي، وظنوا أنه نهاية المقاومة، ولا حيلة لأحد معه، لكن غزة مازالت صامدة، وقادرة على أن تقول “لا”، بفضل الله أولا، ثم بفضل رجالها ونسائها وأطفالها الذين أعطوا العالم ـ وهم تحت النار والحصار ـ دروسا باهرة في الشجاعة والتحدي، وما زال المقاومون فيها قادرين على أن يضربوا عدوهم ويوجعوه، ويجعلوه يتألم لقتلاه وجرحاه وأسراه، كما يتألمون هم لشهدائهم وجرحاهم وأسراهم.
ورغم العنجهية التي يتحدث بها نتنياهو وحاشيته فإن الصحف الإسرائيلية تنشر يوميا مقالات وتحليلات تصرخ من هذا الألم، ومن (وحل غزة) الذي يغوص فيه جيش الاحتلال، وهو التعبير الذي استخدمه عاموس هرئيل محرر الشئون العسكرية والأمنية في صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية لأول مرة في يناير الماضي، وتحدى به أكاذيب نتنياهو عن انتصارات وهمية، واتهمه بأنه وحكومته مفصولان عن الواقع الأليم، ثم صار تعبير (وحل غزة) شائعا في المقالات المشابهة.
ويوم الخميس الماضي نشرت صحيفة (ها آرتس) مقالا للجنرال المتقاعد إسحاق بريك حذر فيه من أن إسرائيل ستنهار في غضون عام واحد إذا استمرت حرب الاستنزاف الدائرة حاليا، وقال: “نحن نغرق في وحل غزة، ونفقد جنودنا هناك، دون أي فرصة لتحقيق هدف الحرب الرئيس، وهو إسقاط حماس، وقد بدأ وزير الدفاع يوآف جالانت يدرك حقيقة أن الحرب فقدت غايتها، وجميع مسارات المستويين السياسي والعسكرى تقود إسرائيل إلى الهاوية، وإذا اندلعت حرب إقليمية ستكون إسرائيل في خطرأكبر، وربما يكون استبدال حكومة نتنياهو وشركائه المتطرفين هو طوق النجاة لإسرائيل من دوامة وجودية قد تصل قريبا إلى نقطة اللاعودة”.
وفي مقال سابق نشرته صحيفة (معاريف) الإسرائيلية يوم 16 أغسطس الجاري قال الجنرال بريك نفسه: “لقد اجتمعت مع نتنياهو ست مرات خلال الحرب، ووجدته يدرك جيدا أنه لاتوجد إمكانية لسحق حماس سحقا كاملا، ومع ذلك استمر يقول إن إسرائيل ستواصل القتال، وهي تصريحات موجهة لمنتخبيه من اليمين المتطرف الذين تأسر قلوبهم مثل هذه الكليشيهات، بينما الحقيقة أن الحرب لن تؤدي إلى انهيار حماس، بل إلى انهيار دولة إسرائيل في عدة مجالات، أهمها فقدان جيش الاحتياط خلال فترة قصيرة، وانهيار الاقتصاد الذي يعاني عجزا يصل إلى 9%، وتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة عالميا، وتأجيج الكراهية بين شرائح الشعب بما يهدد الوحدة الوطنية”.
ويوم السبت الماضي نشرت (هاآرتس) مقالا افتتاحيا قالت فيه: “إن قضية المخطوفين الذين يموتون ببطء في أنفاق غزة لأكثر من عشرة أشهر باتت رهينة لمواقف نتنياهو المتقلبة، وقد وقع عامة الناس وعائلات الرهائن على وجه الخصوص في فخ الأمل المزيف وخيبة الرجاء، حين صدقوا أن نتنياهو مستعد للتفاوض وإظهار المرونة، ثم فوجئوا بأنه يضيف المزيد من الشروط ويبدأ من جديد، وفي غضون ذلك يموت الرهائن، لقد أصبح نتنياهو أستاذاً في تزييف المفاوضات؛ حيث يكثر القول بلا عمل، وبالتالي يجب عدم السماح له بمواصلة إجراء مفاوضات صورية، وشغل الجمهور بآمال كاذبة عن عودة الرهائن، بينما يتركهم يموتون واحدا تلو الآخر، على الجمهور أن يستيقظ، ويوضح لرئيس الوزراء أنه لا يملك تفويضاً للتضحية بالرهائن من أجل احتلال غزة وإشعال حرب شاملة لتحقيق مصالحه الشخصية”.