تتعدد الضغوطات التي تقع على الطالب وولي الأمر بمرحلة التعليم الثانوي، وخاصة في السنة الأخيرة؛ حيث إنها مرحلة مفصلية في حياة الطالب ما بين نظام يعمل على اكساب الخبرات التعليمية بصورة مركزة؛ كي يستعد الفرد لأن ينتقل لنظام جديد يعتمد في جله على التعلم الذاتي وفق آليات البحث المنفتحة سواءً عن طريق المكتبات أو المواقع الرقمية الموثقة، ناهيك عما يأخذه عن أستاذه في المحاضرة وما يمتلكه من مصادر عديدة في المقرر الواحد.
وتعالوا بنا نتذكر مشكلات كثافة المقررات وتعددها التي تضغط على كاهل الطالب وأسرته في هذه السنة المفصلية، وما يرتبط بهذا بكم المقررات من نظم امتحانية كانت تقيس التحصيل في مستوياته الأولية، ومن ثم يعتمد اكتساب ما بين طياتها من خبرات على فلسفة حقن الأذهان، وهذا يعني أن الاهتمام بمهارات التفكير العليا بات محدودًا في تناوله، وهنا نقع تحت طائلة ماهية الاستظهار الذي لا يُمكن الطالب من أن يبدع أو يبتكر وفق طبيعة الخبرة ومكونها.
وإذا ما نظرنا إلى أي محتوى تعليمي مرتبط بمنهج دراسي؛ فإن المعيار الحاكم يقوم على ماهية التسلسل والتكامل بداية من السنة الأولى بالمرحلة وانتهاءً بالسنة الأخيرة، وبروية وموضوعية نجد أن مجموع الخبرات التي تقدم لأبنائنا طلاب المرحلة الثانوية الجديدة في كليتها ممتازة، وتتسق مع المعيار المشار إليه؛ إذ تعده لأن يمتلك مجموعة من الخبرات التعليمية المساعدة في اكتساب مهارات الابتكار والإبداع مرورًا باستنتاج وتفسير واستنباط واستيعاب مفاهيمي ومقدرة على التحليل والاستخلاص؛ فتتشكل البنى المعرفية في إطارها الصحيح، وتكتسب الأداءات والممارسات والسلوكيات التي تعد مؤشرات لاكتساب المهارة، ومن ثم يرتقى الوجدان للمستوى المنشود.
إن المقررات التعليمية بنظام الثانوية العامة في صورتها الجديدة تزيل عن أولياء الأمور مسببات القلق الناتجة عن كثرة المقررات وغزارة ما بها من خبرات، مما يتطلب أن يستعين الطالب بمساعدات خارجية تثقل كاهل الأسرة ماديًا ومعنويًا، وللأسف تصبح الغاية الرئيسة من كل هذا الزخم خروج الطالب بمجموع يمكنه من أن يحجز مقعدًا بالجامعة مناسبًا لما يبذله من جهد في السنة الأخيرة، ونرصد حيال ذلك تنافسًا غير مسبوق في معاقل الدروس الخصوصية؛ إذ يتباهى أصحاب الخبرة في صور تقديم محتوى المادة الدراسية بما يساعد على حقن محتوها في أذهان الطلاب.
وثمة فرقٌ جوهري بين خبرة تعليمية تتضمن في طياتها معرفة وممارسة ووجدان يكتسبها المتعلم بشكل مقصود من خلال بحثٍ وتجريبٍ يستمتع بمراحله المخططة، وبين متعلمٍ تقدم له الخبرة التعليمية جاهزةً دون جهدٍ أو عناءٍ بآليات الحقن المشار إليها؛ فنرى تباينًا بين من يقوم بأداءٍ فينتج ومن يتلقى فيستهلك؛ فالأول يتغير سلوكه بصورةٍ إيجابيةٍ استنادًا على ما اكتسبه من خبرات، والثاني يحتفظ بطيف الخبرة في حيز الذاكرة لوقتٍ محددٍ؛ فلا يتأثر سلوكه أو أدائه بصورة مستدامة، وهذا يمثل الفارق بين الثانوية العامة في ثوبها الجديد عما سبق؛ حيث نتخلص من صورة الحقن إلى مسار التمكن من الخبرة المتعلمة.
وإذا ما عمرت مؤسساتنا التعليمية بطلاب الثانوية العامة، وتم تدريس المقررات التي تم التوافق عليها في بيئة مواتية؛ فإن ثمرة ذلك كبيرة؛ حيث يكتسب الطالب الخبرة في صورتها المتكاملة، ويستشعر بقيمة المؤسسة التعليمية، ويبدي ولاءً وانتماءً لكيانها، ويحترم ويقدر المعلم صاحب الرسالة السامية، الذي يبذل أقصى ما في وسعه كي يكسبه خبرات التعلم المتضمنة بالمقررات الدراسية، ومن ثم يزيد لدى المتعلم الرغبة والشغف للتعلم.
لتكن نظرتنا إيجابية تحمل تفاؤل حيال ما حدث من تطوير للمرحلة الثانوية، وخاصة فيما يتعلق بالمقررات الدراسية؛ فكوني متخصص أرى أن نميز بين حفظٍ يتلوه تطبيقٌ يسبقه فهمٌ واستيعابٌ، وبين حقنٍ للأذهان لا يفضي عن ثمرةٍ نترقبها؛ فعندما يحفظ المتعلم قانونًا ويطبقه على مسألةٍ تلو مسألةٍ وفق معطياتٍ متباينةٍ؛ فهذا ما نرجوه ونترجاه، يقابل ذلك حفظ المتعلم خطوات حل مسألةٍ بعينها دون فهمٍ أو فقهٍ لتطبيق القانون، ومن ثم يعجز عن حلها حينما تختلف المعطيات الخاصة بها؛ فلا مجال للتفكير الذي يعين الطالب على التطبيق بصورةٍ صحيحةٍ، ومن ثم ينبغي أن نوقن بأن كثرة المقررات في السنة الأخيرة بالثانوية العامة تقف حجر عثرة أمام تحقيق الغاية المشار إليها.
ما نأمله في النظام الجديد أن نتمسك ونحرص على تنفيذ التعليم الحقيقي بمؤسساتنا التعليمية بكافة ربوع الوطن الحبيب؛ فغاية ما يزعجني كأكاديمي أن أرى من يقدم معلوماتٍ بغرض أن يحفظها متعلمينا عن ظهر قلبٍ دون المرور على مستوى الفهم وما يتضمنه من استيعابٍ واستنتاجٍ ومقدرةٍ على الترجمة، وفي المقابل أثمن من يحرص على أن يمكن المتعلم من التطبيق والتحليل كي يستطيع أن يصل لمأمول الابتكار، وهذا مرمى التعلم المنشود في كينونته التي نفضلها، بل ونتطلع بحرصٍ للعمل بها في بالمرحلة الثانوية الجديدة.
وتعالوا نهيأ أنفسنا لأمر جلل في قياس نواتج التعلم لدى طلابنا بالمرحلة الثانوية؛ إذ اطمح أن نقيس وظيفية المعرفة، ونقلل من مستويات التذكر لها؛ فأرى أن الأمر مرهونٌ ببقاء أثر التعلم الذي يضيف إلى مربع الخبرات المربية، ويصقل مهارات ووجدانيات المتعلم بصورةٍ تراكميةٍ، تخلق لنا مواطنًا صالحًا يمتلك مهارات القرن الحادي والعشرين إذا ما خططنا لذلك بعنايةٍ، ومن ثم نضمن نجاحه المبهر في مراحل التعليم المتقدمة أو التالية.
وفي خضم هذا النظام الجديد للثانوية العامة أحلم بأن نحد من صور حقن أذهان أبنائنا بمؤسساتنا التعليمية، ويحدث ذلك إذ ما قللنا من الاعتمادية في التمدرس، وفتحنا للمتعلم مجال الممارسة الوظيفية عبر مهامٍ يؤديها في صورةٍ منظمةٍ ومخططٍ لها سلفًا من قبل المعلم عبر أنشطةٍ تعليميةٍ تسعى لتحقيق أهداف التعلم المنشودة؛ فلا مجال لأن يقدم المعلم خبرات التعلم في صورتها الجاهزة سواءً أكانت بسيطةً أم معقدةً، ولا حكر على مصدرٍ معلوماتيٍ بعينه؛ فقد باتت مصادر المعرفة متعددةً ومتنوعةً، وكثرة مطالعتها تساعد في صقل محتوى الخبرة بمجالاتها المعلومة لدينا.
وأرى أن المقررات الدراسية بالمرحلة الثانوية في ثوبها الجديد تسمح لنا بالتطلع إلى أن تُمارس استراتيجيات التدريس الفعالة، والتي تحد من عملية حقن الأذهان؛ حيث إن فلسفتها تقوم على المشاركة والشراكة والجهد المنظم الذي يؤديه المتعلم أثناء إجراءات التدريس بالبيئة التعليمية؛ فقد تبدلت الأدوار القديمة للمتعلم والمعلم، وصار الفاعل فيها المتعلم عبر ما يقوم به من مهامٍ وتكليفاتٍ، يتابعه من خلالها المعلم، ويقدم له الدعم والمساندة، ويصوب له ما قد يقع فيه من خطأٍ، ويعزز جهوده ويحفزه لمزيدٍ من التعلم.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر