كان شابّاً فقير الحال بكلّ ثنايا حياته المتعبة، تخرّج من الجامعة بعد سنوات مضنية من الدراسة والعمل معاً، تزوّج زميلة له أحبّها كثيراً كما بادلته هي نفس الشعور.
سكن بيتاً صغيراً وأصبح لديه ثلاثة أولاد صبية، كم كان يتمنّى أنْ يرزقه الله ببنت لتعلِّم الصبية الأدب -حسب اعتقاده-، لكنّه كان مؤمناً أنّ الله جعل هذا نصيبه في الدنيا.
استطاع بعد سنوات من العمل المذلّ والتنقّل من مكان إلى آخر أنْ يجمع مبلغاً من المال ليكون مُقدِّمة لشراء مركبة أجرة تنهي سنوات العذاب، وليتخلّص من أصحاب العمل الذين لم يرَ منهم خيراً.
كان يجوب شوارع مدينته ليلاً ونهاراً ويسمع قصصهم المُتعَبة والمملّة أحياناً كثيرة، حتّى يعود إلى البيت مُنهَك القوى ليستأنف عمله في اليوم التالي.
وفي إحدى الليالي؛ أكمل عمله واشترى لبيته الفواكه والخضروات، ولم ينسَ الباميا التي يحبّها كثيراً، استوقفه ثلاثة رجال طلبوا منه توصيلهم لمكان بعيد نسبيّاً، كيف لا يوافق إنْ كانت الأجرة ستمنحه اللحم مع الباميا؟!، وصل معهم إلى مكان خالٍ من السكّان، شعر بفوهة مسدّس توضع خلف رأسه، صوت يشبه نعيق الغراب يطلب منه الترجّل من السيارة، لم يشعر بعدها إلّا بضربة أفقدته الوعي، أفاق بعدها ولم يجد اللصوص ولا سيّارته، أصابته الحسرة والألم لفقدان مصدر رزقه الوحيد، وأخذت أفكاره تتزاحم كيف سيتمكّن من تسديد أقساط تلك السيّارة وكيف سيوفّر مبلغ إيجار البيت وأمور المعيشة للعائلة، دموعه تتساقط كشلّال نار، والحرقة مزّقت معدته المصابة بالقرحة أصلاً، أخذ يشكي إلى الله ويعتب عتاباً بكت له ملائكة السماء:
-يا الله.. مالي أراك بعيداً؟!.. لماذا تخنقني في أزمنة الضيق؟!.. حتّى خبزك منحتني إيّاه معجوناً بالدموع.. لماذا كلّ هذا الشر لدى الإنسان؟!.. أليس الكلّ تحت قبضتك سائرين ؟!.. اسمعني الآن قبل عقابي.. أليس لديك محكمة تقضي بعد السماع؟!.. أهو عقاب أحللته عليّ أم أنّك غفلت عنّي وأدرت لي ظهرك؟!.. مالي أراك بعيداً عن الفقراء والمحرومين وجعلت للمجرمين مقاماً وولّيتهم علينا؟!.
أوّل مرّة في حياته يعاتب الله بهذه القسوة وهو المؤمن بقضائه وقدره، ظلّ يسير بخطواته المثقلة لعلّه يجد مَنْ يقلّه إلى البيت، شاهد من بعيد ضوءاً لاستراحة أو مطعماً للمسافرين، وصل إليه بعد تعب وعناء، دخل الحمّام ليغسل الدموع التي اختلطت مع التراب ليبدو وجهه كبركة وحل، رفع رأسه إلى سقف الحمّام وأخذ يستغفر ربّه:
– اللهمّ يا سامع كلّ نجوى.. ويا شاهد على كلّ بلوى.. ويا كاشف كلّ بليّة.. يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمائر الصامتين.. أدعوك يا ربّي فقد اشتدّت فرقتي وقلّت حيلتي وضعفت قوّتي، وقبل أنْ يقول (يا أرحم الراحمين) شاهد من خلال المرآة اللصوص الثلاثة وقد اتّخذوا لهم مكاناً في المطعم وسيّارته تقف في الخارج، تذكّر في لحظة أنّه دائماً ما كان يضع مفتاحاً احتياطيّاً لسيّارته في جيبه إن غفل أو فقد مفتاحه الأوّل، تسلّل إلى خارج المطعم من الباب الثاني، فتح باب السيّارة ويداه ترتعشان، شعر أنّها سرقته الأولى في حياته وإنْ كانت سيّارته!، أدار محرّكها وانطلق بها بسرعة الريح دون حتّى أنْ ينظر للمرآة ليعرف مَنْ خلفه، وصل إلى البيت وحمد الله كثيراً على سلامته وسيّارته وكيس الباميا التي سيأكلها دون اللحم، وهو يقبّل وجه الله شاكراً.
ما أنْ فتح صندوق السيّارة لإخراج أكياس الخضروات والفواكه؛ حتّى شاهد حقيبة كبيرة مملوءة بالنقود، أصابته الدهشة والهلع، تسارعت دقّات قلبه واختلطت بنغمات فرح، استطاع أنْ يعيد إلى نفسه الهدوء في دقائق، دخل إلى البيت وطلب من زوجته وأولاده أنْ يغادروا الدار مع أوراقهم الرسميّة وبملابس النوم فقط، نفّذت الزوجة الأمر بعد أنْ شاهدت إصرار زوجها على الخروج بسرعة، صعدت إلى جانبه والأولاد معه في الخلف وما لبثت أن تطلب منه تفسيراً لما يحدث:
-أخبرني أرجوك.. بالله عليك ما الذي يحدث؟!
-حبيبتي.. لنخرج من كهف الأفاعي هذا.. دعينا نرى النور ونبحث عن أرض فيها الأشجار مزهرة عالية.. وثمار تتدلّى وأطيار تنتقل صاعدة وهابطة تصدح.. تغرّد.. تصفّق بأجنحتها تتقلّب في الهواء.. وحتّى دموعنا ستشفي أدران القلوب.. هناك سنرى البحر والميناء وسفناً تحمل أناساً لايعرفون سوى الفرح.. هناك سيكون لنا جنّة على الأرض وسنطير مع الطيور المغرّدة.
نظرت إليه بكلّ هدوء وسلام في الروح والعيون، بتلك العينين اللتين لطالما عشق سوادهما، في وجه كما هو البدر في يوم اكتماله، وقالت:
-حبيبي.. إذن لن أغادر وحدي مع أولادي!..
لتكن الجنّة لكلّ الطيور المعذّبة في بلادي!.