تأكيدا للقاعدة الذهبية أنه لا ترادف في القرآن الكريم , فمخطيء – يقينا – من يظن أن هناك تشابها بين دلالة وصف القرآن الكريم بالكتاب . وفي سورة البقرة ” الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)” , فإن الكتاب ومعناه الصحف المجموعة فعله كتب ومدلولاته متعددة منها المخطوط والرسالة والحكم والأجل . والكتاب أيضا هو القدر بمعنى ما كتب الله لنا أو علينا وشرع . والمؤكد ان هذا المعنى الأخير هو المقصود بالكتاب , ذلك أن التوراة كتاب والانجيل كتاب وصحف ابراهيم كتاب وعليه يصبح مدلول الكتاب هو مضمون الرسالة . أما لفظ القرآن وهو الاسم الذي يطلق على كلام الله عز وجل المنزَّل على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، خاصة، ولا يسمى بذلك غيره, فمصدره قرأ يقرأ قراءة وقرآنا . وعندما يكون المقروء هو “كلام الله المُنزل على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم،، المعجز بلفظه، المتعبّد بتلاوته، المُفتتح بسورة الفاتحة، والمُنتهي بسورة الناس، المكتوب في المصاحف، والمنقول إلينا بالتواتر” , فذلك يتطلب التركيز والتمهل . وعليه فإن المولى سبحانه لا يدعونا أبدا إلى تدبر الكتاب , بل تدبر القرآن كما في الآية 82 من سورة النساء : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) . أو الآية 24 من سورة محمد : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). واعتبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه عدم تدبر قومه للقرآن هجرا له . كما في الآية 30 من سورة الفرقان ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) . وهو القرآن الذي يتساءل المولى سبحانه وتعالى فيقول في الآية 50 من سورة المرسلات : “فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ” .
ولأن دعوة محمد الخاتمة كانت هي الاسلام لله سبحانه وتعالى , فإن القرآن الكريم لم ينسخ التوراة ولا الانجيل وإنما اثبتهما بوصفه الرسالة الخاتمة . وهي ذاتها المعاني التي وردت في الآية 13 من سورة الشورى : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ) .
.
وكما وردت كلمة (الكتاب) في الكتاب العزيز مرادا بها القرآن، ومن ذلك قوله تعالى في الآية 17 من سورة الشورى : ( اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) , فقد وردت كلمة الكتاب في القرآن مرادا بها التوراة، ومن ذلك قوله تعالى في الآية 53 من سورة البقرة : (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . وفي الآيتين 3 و4 من سورة آل عمران “نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ (3) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ۗ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (4)”.
وجـاء في الذكـر الحكـيم أن الكتاب الذي أنزل على محـمـد -عليـه السـلام- مصـدّق لمـا بين يـديه من (الكـتـاب) ومهيـمـنٌ علـيـه، وذلك في قـولـه: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” (المائدة:48). وما قبْل القرآن من الكتاب هو كتب أهل الكتاب، من كتب قديمة يؤمن بها اليهود، وكتب جديدة يؤمن بها المسيحيون مع إيمانهم بالكتب القديمة. ووصفَ الله القرآنَ بأنه تصديق (للكتاب) وتفصيل له، فالقرآن ليس كتابا يلغي كتبا سبقته، كما يفهم البعض، وليس كتابا منعزلا عن الكتب التي سبقته، وإنما هو كتاب من الله يصدِّق الكتبَ السابقة، أي يعلنُ صدقها على الإجمال، وهو تفصيل لأهم القضايا التي تضمنتها.
ولذلك أمر الله المؤمنين بمحمد -عليه السلام- أن يؤمنوا بتلك الكتب السابقة، فقــال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ” (النساء:136).
ووردت كلمة (الكتاب) بمعنى مجموع ما كتبه الله على عباده من الواجبات والمحرمات، ومن ذلك قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (الجمعة:2)، فالنبي يتلو الآيات، وهي نصوص القرآن، ويزكي المؤمنين أي يساعدهم على أن يكون سلوكهم حسنا خيِّرا صالحا، ويعلمهم الكتاب أي مجموع ما كتبه الله عليهم من واجبات ومحرمات، ويعلمهم الحكمة التي بها يضعون كل شيء في موضعه.
ولهذا تكون الرسالة التي حملها محمد صلى الله عليه وسلم هي رحمة للعالمين , وليس للمؤمنين بمحمد وقومه فحسب . وفي الآية 107 من سورة الأنبياء : “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ “. الرحمة هنا ليست في شخص محمد عليه الصلاة والسلام وإنما في رسالته كرسول الله إلى الجن والإنس.. إلى الجميع، كما قال تعالى: “قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا “[الأعراف:158]، وقال سبحانه: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا” [سبأ:28]، فهو رسول الله إلى الجميع، فمن دخل في رسالته صارت الرحمة كاملة في حقه ودخل الجنة ونجا من النار، ومن لم يدخل قامت عليه الحجة وانتفت المعذرة وصار بذلك قد رحم من جهة بلاغه ومن جهة إنذاره .
وفي الأسبوع المقبل , إن كان في العمر بقية , نستكمل الرحلة في تدبر آيات الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .