الدكتورة عادل عامر
تتسم العقود الإدارية بخاصية جوهرية ألا وهي أن على المتعاقد أن ينفذ بنفسه الالتزامات المفروضة عليه بموجب العقد، ويلعب مبدأ الاعتبار الشخصي للمتعاقد دوراً بالغ الأهمية في مجال العقود الإدارية نظراً لصلة العقد الإداري الوثيقة بالمرفق العام. فالإدارة عند إبرام العقد تراعي توافر بعض الاعتبارات المحددة بدقة في شخص المتعاقد المحتمل بما يضمن تنفيذ العمل بدقة وأمانة وعلى نحو يحقق الصالح العام على أكمل وجه ويؤمن سير المرفق العام محل العقد بانتظام وإضطراد.
في العموم تتعلق هذه الاعتبارات بالكفاية المالية والمقدرة الفنية للمتعاقد، إضافة إلى حسن سيرته وسمعته. وبالمقابل يتطلب تنفيذ العقود الإدارية في الوقت الراهن تضافر العديد من الجهود لضمان تنفيذها على الوجه الذي يحقق الصالح العام وذلك بسبب تطور العقود الإدارية نفسها وتنوعها، وتدخل العوامل الاقتصادية وتقدم الأساليب الفنية، فبالنظر للتقدم العلمي والفني والتخصصي الدقيق في شتى مجالات الحياة يتطلب تنفيذ مشروع من المشروعات العامة مثل مترو الأنفاق أو بناء مستشفى تعاون العديد من الشركات المتخصصة من أجل إنجازه على الوجه الأكمل. كما أنه قد يطرأ أثناء تنفيذ العقد الإداري ظروف معينة تؤثر بشكل ملحوظ على قدرة المورد في تنفيذ التزاماته سواء تعلقت هذه الظروف بالمقدرة المالية له أم بالكفاءة الفنية، الأمر الذي جعل من الصعب قيام المتعاقد بإنجاز التزاماته دون أن اللجوء إلى التعاقد من الباطن مع مقاولين آخرين.
ولذلك أصبح التعاقد من الباطن أسلوباً طبيعياً لتنفيذ العقود الإدارية وفقاً للضرورات الاقتصادية والفنية وطريقة مناسبة لمشاركة الشركات الصغيرة في تنفيذ العقود الإدارية وأصبح من المنطق أن يرتبط مقاولو الإدارة مع المتعاقدين من الباطن لتنفيذ عقودهم الأصلية في موعدها المحدد.
يعتبر العقد الإداري الذي تبرمه الإدارة مع أشخاص من القانون الخاص بقصد مساعدتها في إنشاء المرافق العامة، أو تسييرها، أو تأمين مستلزماتها من أهم الأنشطة الإدارية التي تمارسها. ونظراً لتطور الوظائف والمهام التي ينهض بها المتعاقد مع الإدارة وتعقدها نتيجة للتطور العلمي والتقني والاقتصادي مما فرض عليه التعاقد من الباطن لتنفيذ جزء، أو أجزاء من عقده المبرم مع الإدارة.
وعلى الرغم من أهمية التعاقد من الباطن في تنفيذ العقود الإدارية إلا أنه كثيراً ما تم النظر إليه باعتباره إخلالاً بقاعدة الاعتبار الشخصي التي تستند إليها الإدارة في اختيار المتعاقد معها. مما يدفع إلى التساؤل حول مشروعية التعاقد من الباطن في القانون السوري والمقارن، والآثار الناشئة عنه.
مشكلة الدراسة:
تتلخص مشكلة البحث الرئيسية في دراسة (الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن في العقد الإداري) ويتفرع عن هذه المشكلة الرئيسية الأسئلة الفرعية التالية:
ـ ما المقصود بالتعاقد من الباطن في العقود الإدارية، وما هي الخصائص التي يتميز بها؟
ـ ما هي الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن بموافقة الإدارة؟
ـ ما هي الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن دون موافقة الإدارة؟
أهمية الدراسة:
ـ تحديد مفهوم التعاقد من الباطن في العقود الإدارية، والخصائص التي يتميز بها.
ـ دراسة الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن في العقود الإدارية بموافقة الإدارة.
ـ دراسة الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن في العقود الإدارية بدون موفقة الإدارة.
منهج الدراسة:
تعتمد هذه الدراسة على المنهج التحليلي المقارن للنصوص القانونية على ضوء آراء الفقه، وأحكام القضاء..
حدود الدراسة:
تقتصر حدود الدراسة من الناحية الموضوعية على الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن في العقود الإدارية على ضوء ما تضمنه القانون السوري والمقارن( الفرنسي، والمصري).
خطة الدراسة:
تتكون هذه الدراسة من مقدمة، ومبحث تمهيدي، ومبحثين رئيسيين، وخاتمة. على النحو التالي:
المقدمة:
المبحث التمهيدي: مفهوم التعاقد من الباطن في العقود الإدارية.
ـ المبحث الأول: الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن في العقود الإدارية بموافقة الإدارة.
ـ المبحث الثاني: الآثار الناشئة عن التعاقد من الباطن في العقود الإدارية دون موافقة الإدارة.
ـ الخاتمة.
المبحث التمهيدي
مفهوم التعاقد من الباطن في العقود الإدارية
أدى تطور العقود الإدارية إلى انتشار ظاهرة التعاقد من الباطن بكثرة في تنفيذ هذه العقود وعلى الرغم من أن التعاقد من الباطن لم يكن موضع ترحيب دائما من الفقه والأنظمة القانونية المتعاقبة التي وجدت فيه تناقضاَ مع قاعدة الاعتبار الشخصي التي يتعين مراعاتها عند إبرام العقود الإدارية، إلا انه سرعان ما فرض وجوده وصار حقيقة واقعة يتعين التعامل معها وتقنينها بدلاً من الالتفاف عليها، أو التهرب من مواجهتها. مما دفع الفقه والقضاء والقانون السوري والمقارن إلى التصدي لهذه الظاهرة التعاقدية وتنظيمها في أطر قانونية مناسبة.
يتفق اغلب الفقه المصري على ان التزامات المتعاقد تأخذ صوراً متعددة وهي ان على المتعاقد اتباع جميع القوانين واللوائح التنظيمية الحكومية والمحلية والتي لها صلة بتنفيذ العقد ، كما يلتزم المتعاقد بحفظ النظام بموقع العمل وينفذ أوامر الإدارة ، وان على المتعاقد ان ينفذ العقد بنفسه ، لان شخصية المتعاقد تلعب دوراً هاما في التعاقد ، ولا يجوز للمتعاقد النزول عن العقد أو التنازل عنه للغير أو أن يتعاقد من الباطن مع أشخاص آخرين ألا بموافقة الإدارة ، ويلتزم بإنهاء تنفيذ عقده في الموعد المتفق عليه (1) . ومن المسلم به ان المتعاقد في نطاق عقد استئجار الإدارة لخدمات الأشخاص يلتزم بتنفيذ التزاماته المقررة والمنصوص عليها في العقد ، شأنه في ذلك شأن أي متعاقد آخر في نطاق العقود الأخرى ، وان أي إخلال منه في التنفيذ يؤثر في سير المرافق العامة كما ان المتعاقد يتحمل التزامات أخرى يكون مصدرها النصوص الآمرة في القوانين والتعليمات والأنظمة التي تحكم صيغ التعاقد بين الإدارة والمتعاقد معها ، كذلك على المتعاقد الالتزام بالعادات والأعراف المرعية في العقود ، حيث أنها تعد مصدراً لبعض الشروط الواجبة الاتباع . وكذلك عليه الالتزام بالأوامر الخاصة التي تصدرها الجهة الإدارية أثناء تنفيذ العقد ، و بالرغم من تعدد واختلافات صور هذه الالتزامات وأوضاعها ، يمكن تحديدها في ثلاثة التزامات سوف نبحثها في ثلاثة فروع تباعاً .
الفرع الأول : التزام المتعاقد بتنفيذ العقد بنفسه .
إن اتصال أي عقد إداري بنشاط مرفق عام يجعل التزامات المتعاقد اشد صرامة وأكثر إلزاما منها في عقود القانون الخاص ، لذلك على المتعاقد أن يبذل أقصى ما في وسعه من عناية وحرص في تنفيذ التزاماته ، حيث ان نصوص العقد وكذلك القاضي الإداري ، واللوائح والتعليمات تفرض عليه ان يقوم بتنفيذ التزاماته العقدية بنفسه ولا يجوز له إحلال أي شخص محله في تنفيذ العقد إلا بموافقة الإدارة (2) . وقد أكد ذلك القضاء الإداري المصري ؛ حيث جاء في حكم لمحكمة القضاء الإداري تقول فيه : (( أن العقود الإدارية تحكمها قواعد عامة تطبق عليها جميعها ولو لم ينص عليها العقد . ومن هذه القواعد إن التزامات المتعاقد مع الإدارة التزامات شخصية ، أي أن المتعاقد يجب ان ينفذها شخصياً وبنفسه ، فلا يجوز له أن يحل غيره فيها ، أو ان يتعاقد بشأنها من الباطن إلا بموافقة الإدارة . فإذا حصل التنازل عن العقد الإداري دون موافقة الإدارة ، فان التنازل يعتبر باطلاً بطلاناً يتعلق بالنظام العام ، ويكون خطأ من جانب المتعاقد يترتب عليه توقيع الجزاءات المنصوص عليها في العقد ، وخصوصاً فسخ العقد أو إلغاؤه ، إعتباراً بأن الخطأ المذكور ، خطأ جسيم ، وكذلك الحــال فـــي شأن التعاقد من الباطن …… )) (3) . وفي حكم أخر للمحكمة الإدارية العليا تقول فيه : (( وحيث انه من المسلمات ان يقوم المتعاقد بنفسه بالتنفيذ ، فالتزامات المتعاقد مع الإدارة التزامات شخصية لا يجوز له ان يحل غيره فيها ، او ان يتعاقد بشأنها مع الغير من الباطن إلا بموافقة الإدارة ، كما هو الحاصل في هذه المنازعة ، فان التنازل يعتبر باطلاً ولا يحتج به في مواجهة الإدارة ، فلا تنشأ بين المتعاقد من الباطن وبين الإدارة أي علاقة ، ويبقى المتعاقد الأصلي مسؤولاً في مواجهة الإدارة في كلتا الحالتين )) (4) . ولما كان عقد استئجار الإدارة لخدمات الأشخاص ـ كأحد العقود الإدارية ـ ذا صلة وثيقة بالمرفق العام ، فأن على الجهة الإدارية آن تتمعن وتبذل العناية في اختيار من تتعاقد معه ، للحصول على شخص مقبول من الناحية الفنية والقانونية ، لان الاعتبار الشخصي في مثل هذه العقود ، يعتبر من الأساسيات التي تعتمد في الاختيار ، وكذلك عند تنفيذ العقد . وفي مجال تنفيذه فان القضاء في كل من فرنسا ومصر يقرر ان التزامات المتعاقد في هذه العقود هي التزامات شخصية (5) .
الفرع الثاني : التزام المتعاقد بتنفيذ العقد وفقاً للشروط المحددة فيه .
على أي متعاقد مع الإدارة أن ينفذ التزاماته وفق ما ورد في نصوص العقد مع وجوب احترام المتعاقد لدفاتر الشروط باعتبارها جزءاً من العقد ، وكذلك على المتعاقد الالتزام بتوجيهات الإدارة فيما يخص تعليمات التنفيذ وحسب مبادئ القانون العام ، إن هذا الالتزام بشروط العقد لا يعفى منه المتعاقد إلا بأداء الالتزام أو تنفيذ العقد بالكامل (6) . أي أن المتعاقد يجب أن ينفذ التزاماته وفقاً للشروط الواردة في العقد ، كما ان عليه ان يحترم المدة المحددة في العقد وان لا يمتنع عن التنفيذ بحجة تقصير الإدارة أو أن الإدارة أخلت بأحد الالتزامات الواقعة عليها ، بل يجب عليه ان يستمر في التنفيذ ويلجأ مقابل ذلك إلى القضاء لنظر النزاع الناشئ بينه وبين الادارة ، ولما كان العقد يتضمن التزامات متقابلة وفق شروط محددة فإنه يعتبر وثيقة ملزمة وواجبة الاحترام بين الطرفين ، لأنها عبرت عن اتفاق أرادتيهما (7) .
الفرع الثالث : التزام المتعاقد بتنفيذ العقد وفقاً لمبدأ حسن النية
إن القواعد العامة التي تنظم التزامات المتعاقدين توجب على المتعاقد مع الإدارة الوفاء بالتزاماته كاملة حسب الشروط المنصوص عليها في العقد وما يقضي به العرف الإداري السائد واعتبارات حسن النية (8) ، ومن مستلزمات أو شروط تنفيذ العقد بطريقة سليمة ان يتم هذا التنفيذ وفق مبدأ حسن النية ، وان واجب العمل بهذا المبدأ هو واجب تعاقدي مفروض على طرفي العقد وليس مقصوراً على طرف دون الأخر . وقد أكد القضاء الإداري المصري هذا المبدأ . حيث جاء في حكم المحكمة الإدارية العليا في مصر بتاريخ 11/4/1970 ما يلي : (( من المبادئ المسلمة أن العقود تخضع لأصل عام من أصول القانون ، يقضي بان يكون تنفيذها بطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية ، وهذا الأصل مطبق في العقود الإدارية ، شأنها في ذلك شأن العقود المدنية … ))(9) . أما الفقه الإداري العراقي فقد أكد على هذا المبدأ حيث يمكن رد التزامات المتعاقد مع الإدارة إلى وجوب التزام المتعاقد بمبدأ حسن النية في التنفيذ ، كما أوجب علية ان ينفذ التزاماته بطريقة سليمة ، وبعناية تامة ، وهذا الالتزام يعتبر تطبيقاً للقواعد العامة لان حسن النية هو مبدأ يجمع العقود كلها (10) . كما ان التزام المتعاقد بتنفيذ العقد بحسن نية هو تطبيق للقواعد العامة في تنفيذ العقود سواء المدنية منها أو الإدارية ، وان هذا المتعاقد يساهم ويعاون الإدارة في تسيير المرفق العام ، ويكون ملزماً لبذل العناية اللأزمة عند اشتراكه في تقديم الخدمات ، وان فكرة التعاون بين أطراف العقد تتصل بمبدأ حسن النية في تنفيذ هذا العقد ، طالما يوجد هناك هدف.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا