لا أحد ينكر تفوق إسرائيل في القدرات والإمكانات، وعلى وجه الخصوص في المجالات العسكرية والاستخباراتية والعلمية والتكنولوجية، وهذا التفوق مدعوم بقوة من الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتبنى سياسة معلنة تضمن (تفوق إسرائيل على كل الدول المجاورة لها مجتمعة)، ومدعوم كذلك من الدول الغربية وكثير من دول الشرق الأوسط، التى تتبادل مع إسرائيل ما يعرف بالتنسيق الأمني، وما أدراك ما التنسيق الأمني، وتقف حائط صد في مواجهة أية محاولة للهجوم عليها.
وعلى هذا فإن التفوق الإسرائيلى ليس نابعا من الإسرائيليين، وإنما هو تفوق مصطنع (Artificial)، مثلما أن المجتمع الإسرائيلي نفسه مجتمع مصطنع ومدعوم من خارجه، على اعتبار أن إسرائيل ليست دولة عادية، وإنما دولة وظيفية، أنشئت واستمرت لتؤدي وظيفة، وتقوم بمهمة في قلب العالم العربي لصالح الغرب، وللرئيس الأمريكي جو بايدن تصريح تاريخي مشهور في ذلك يقول فيه: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لعملت الولايات المتحدة على إيجادها.”
لذلك فإن هذا التفوق يجب ألا يوقعنا في فخ التهويل والمبالغة في قدرات إسرائيل، وتصويرها على أنها صاحبة اليد الطولى، والقوة التي لا تقهر، لمجرد أنها تحوز أحدث الأسلحة والطائرات والصواريخ التي تحصد أرواح المدنيين كل يوم بالقصف عن بعد، أو لأن لديها التكنولوجيا التي نجحت بها في اغتيال عدد من قادة المقاومة، أو تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكي في لبنان، فالمعروف أنها تمتلك أحدث أجهزة التجسس في العالم، ولديها من فائض المال والجواسيس والعملاء والوكلاء والتسهيلات ما يجعل نشاطها في هذا المجال هو الأوسع عالميا، فضلا عن أن معظم أجهزة الاستخبارات فى المنطقة وخارج المنطقة تعمل لصالحها، طوعا أو كرها.
لقد قتلت إسرائيل آلآف المدنيين، وهدمت المنازل والمدارس والمساجد والكنائس والجامعات، وشردت آلاف الأسر في قطاع غزة، ودمرت البنية التحتية وخربت المزارع، وفخخت أجهزة الاتصالات اللاسلكية في أيدي أصحابها، وهذه الأعمال تصنف وفقا للقانون الدولي على أنها جرائم حرب، لكنها لم تحقق الأهداف التي تريدها، وبالتالي لا تغير معادلات الحرب، في حين تلتزم المقاومة بالقتال في مواجهة جيش الاحتلال وجها لوجه، ومن المسافة صفر، ولا تستهدف غير المقاتلين المدججين بالسلاح، وقواعدهم العسكرية.
ويعترف خبراءعسكريون، إسرائيليون وأمريكيون، بأن المقاومة استطاعت حتى الآن أن توجع دولة إسرائيل، وتصدر إليها الخلافات والصراعات الداخلية، وتنتصر عليها استراتيجيا وأخلاقيا ، أما إنجازات الجيش الإسرائيلي فهي تكتيكية، لم تحقق أيا من الأهداف المعلنة التي حددها بنيامبن نتنياهو، إذ لم يسترد الأسرى، ولم يقض على المقاومة، ولم ينجح في تحييد سلاحها، فما زالت قادرة على أن تضرب في كل مكان من قطاع غزة، وما زالت تتفاوض بمهارة وشموخ، ومازال المقاوم الملثم قادرا على إذلال الدبابة (الميركافا) المرعبة، وما زال أهل غزة يتمسكون بأرضهم ويرفضون التهجير، وجبهتهم الداخلية قوية موحدة، وصمودهم حديث العالم.
يقول الجنرال احتياط بالجيش الإسرائيلي إسحق بريك في مقال بصحيفة (ها آرتس) العبرية: “نحن نواصل القتال وندفع ثمناً باهظا من الدماء، ينجح الجيش في تدمير المباني، لكنه لم يتمكن من إيقاف حماس التي لا تزال باقية بمدينة الأنفاق، وقد عادت إلى حجمها قبل الحرب مع شبان حلوا محل القتلى، ولن يتمكن الجيش من إطلاق سراح الأسرى أوتحقيق الأمن المطلق، وقد حان الوقت للاعتراف بأننا خسرنا الحرب لأن استمرار القتال لن يحقق النصر، بل على العكس فإن هزيمة إسرائيل ستكون أكثر إيلاماً.”
ونشرت مجلة (فورين أفيرز) الأميركية مقالا لروبرت بيب عالم السياسة الأمريكي قال فيه: “إسرائيل لم تهزم المقاومة، وليست على وشك هزيمتها، بل على العكس أصبحت المقاومة أقوى مما كانت عليه، إسرائيل قوية تكنولوجيا لكنها تخسر سياسيا وإستراتيجيا، والمذابح لم تؤد إلا إلى زيادة قوة المقاومة، التي ما زالت تتمتع بدعم كبير من سكان غزة والضفة الغربية، ولديها الآن عدد أكبر من المقاتلين، وتشن حرب عصابات تتضمن كمائن وقنابل يدوية الصنع، ومصدر قوتها لا يأتي من العوامل المادية التي يستخدمها المحللون في العادة للحكم على قوة الدول، بل من قدرتها على جذب أجيال جديدة من المقاتلين الذين ينفذون الحملات القاتلة وعلى استعداد للموت من أجل القضية، وهذه القدرة على التجنيد متجذرة في عامل واحد هو حجم الدعم الذي تستمده المقاومة من مجتمعها.”
وفي تقرير نشره مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن أكد جون ألترمان رئيس وحدة الشرق الأوسط بالمركز أن الولايات المتحدة خاضت سنوات من القتال الشرس في فيتنام وأفغانستان والعراق والصومال، وقتلت مئات الآلاف، ودمرت العديد من المدن والقرى، وأهدرت في سبيل ذلك موارد ضخمة ومليارات من الدولارات، وخسرت آلافا من القتلى الأمريكيين، لكنها في النهاية فشلت في تأمين النصر وانسحبت من تلك البلاد، وعلى إسرائيل أن تتجنب هذه العقدة، خاصة أن مفهوم المقاومة للنصر العسكري يدور حول تحقيق نتائج سياسية طويلة الأجل، فالنصر لن يكون في عام واحد أو خمسة أعوام، ولكن خلال عقود من النضال الذي يزيد التضامن الفلسطيني ويزيد عزلة إسرائيل.”
وهكذا يدرك الخبراء العسكريون أن إسرائيل ليست دولة عادية، وإنما دولة هشة منقوصة الأركان، وأن الرهان على قدراتها التكنولوجية وأسلحتها الفتاكة لايضمن لها النصر، ويبقى أن ندرك نحن أيضا هذه الحقيقة، فلا ننخدع ولا نبالغ، ولا نستسلم لليأس.