أهالي سيناء كانوا مثل العيون والأذان التي كانت تنقل كل ما يحدث داخل الأراضي المحتلة إلى القيادة المصرية، هذه المعلومات كانت بالغة الأهمية في إعداد القوات المسلحة المصرية بشكل دقيق لمعركة استعادة الأرض. فعلى مدار سنوات ما قبل الحرب، تمكنوا من نقل تحركات قوات الاحتلال وتفاصيل مواقعه الدفاعية والتحصينات، مما ساعد القيادة العسكرية على وضع خطط هجومية فعالة ومحكمة. لم تستسلم مصر يومًا للهزيمة، ففي الوقت الذى كان وزير الدفاع الجديد آنذاك الفريق محمد فوزى يبنى الجيش من جديد على الجانب الغربي من القناة، كانت المخابرات الحربية المصرية تنفذ ضربات موجعة ومتلاحقة على الضفة الشرقية للقناة. وقد كان المصريون من أهالي سيناء هم رجالها خلف خطوط العدو فى عمق سيناء.
أهالي سيناء لم يكتفوا بدور المراقبين فقط، بل قاموا بتنفيذ العديد من العمليات البطولية خلف خطوط العدو، عملوا على تعطيل خطوط إمداد القوات الإسرائيلية، وقاموا بتدمير بعض المرافق الحيوية التي كانت تعتمد عليها القوات الإسرائيلية في سيناء. كان هذا الدور البطولي يأتي على حساب حياتهم وحياة عائلاتهم، حيث كانوا يعلمون تمام العلم أنهم معرضون لأقصى العقوبات في حال تم اكتشافهم من قبل قوات الاحتلال.
إن تلك العمليات لم تقتصر فقط على الرجال، بل شاركت فيها نساء سيناء العظيمات أيضًا، حيث قدمن الدعم اللوجستي وعمليات التهريب للمؤن والمواد الضرورية للمقاومة، كان لهذه الجهود الفضل الكبير في تقليل قدرات العدو ورفع معنويات القوات المصرية. بدأت البطولات السيناوية بصورة تلقائية وحتى قبل التنسيق مع جهاز المخابرات الحربية، عندما سارعوا بإنقاذ الجنود المنسحبين من الهزيمة وإخفائهم داخل منازلهم، وإرشادهم لطريق العودة إلى السويس.
وسرعان ما تواصلت المخابرات الحربية مع أهالى سيناء سواء من خلال مشايخ القبائل أو بصورة مباشرة مع بعض البدو بهدف الاستفادة منهم فى خطة المواجهة والصمود وتجهيز أرض سيناء لمعركة التحرير. ومن ثم كانت المهام المطلوبة من أهل سيناء تتلخص فى ثلاثة أمور شديدة الأهمية بالنسبة للجيش المصرى آنذاك، وهي: جمع المعلومات عن جيش العدو، وتصوير مراكز وقواعد ارتكازات جيشهم، والقيام بالعمليات الاعتراضية خلف الخطوط والمواقع المتأخرة. وقد تم تنفيذ هذا التوجه من خلال إنشاء منظمة “سيناء العربية”.
دور أهالي سيناء في حرب أكتوبر يعكس أعلى درجات الولاء للوطن على الرغم من كل الظروف الصعبة التي عاشوها تحت الاحتلال، لم يتخلوا عن مصر ولم يتعاونوا مع العدو، بل فضلوا المخاطرة بحياتهم ومستقبلهم من أجل مساعدة قواتهم المسلحة على استعادة الأرض إن هذا الإصرار والتفاني يعتبران من أعظم الأمثلة على التضحية والوفاء للوطن.
كما أن هذا الدور يعكس مدى أهمية سيناء الاستراتيجية والتاريخية في حماية أمن مصر، وأهالي سيناء لم يكونوا مجرد سكان منطقة جغرافية، بل كانوا في قلب معركة المصير. على مدار السنوات التي تلت حرب أكتوبر، حرصت الدولة المصرية على تكريم أهالي سيناء والاعتراف بدورهم البطولي في تحقيق النصر، وتم منح العديد منهم أوسمة وشهادات تقدير تعبيرًا عن امتنان الشعب المصري وتقديره لتضحياتهم. كما تم تنفيذ العديد من المشاريع التنموية في سيناء بهدف تحسين حياة سكانها وتعزيز اندماجهم في النسيج الوطني.
وفي الختام تظل ذكرى انتصارات أكتوبر فرصة لتذكر البطولات العظيمة التي قدمها الشعب المصري بأكمله، ومن بينهم أهالي سيناء الذين كانوا جنودًا غير مرئيين في هذه المعركة، إن دورهم الحاسم في تقديم المعلومات والدعم اللوجستي للقوات المسلحة ساهم بشكل كبير في تحقيق هذا النصر المجيد. ومن خلال تلك الذكرى، يجب أن نواصل تذكير الأجيال الجديدة بأهمية تلك البطولات، وتعزيز الانتماء والولاء للوطن الذي يتطلب التضحية والعمل المستمر من أجل حمايته.
يكفى موقف قبائل سيناء ومشايخها فى مؤتمر الحسنة للدلالة على وعى ووطنية وانتماء أهل سيناء إلى وطنهم الوحيد مصر. فبينما كانت إسرائيل تخطط لعزل سيناء عن مصر من خلال إعلان رغبة سكانها في الانفصال وتكوين دولتهم المستقلة، وهو ما يعنى سقوط حق القاهرة فى المطالبة باستعادة الأراضى المصرية المحتلة، كان مشايخ القبائل ينسقون سرًا مع المخابرات المصرية لاستدراج موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وإقناعه بقبول المشايخ للفكرة مبدئيًا.
وأمام كاميرات وصحف العالم التى جمعتها إسرائيل فى مؤتمر الحسنة فى أكتوبر 1968 أعلنت القبائل على لسان المتحدث باسمهم الشيخ سالم الهرش شيخ قبيلة البياضية وأمام وكالات الأنباء العالمية رفضها التدويل، وفى كلمته قال الشيخ سالم: “إن سيناء مصرية وقطعة من مصر ولا نرضى بديلًا عن مصر وما أنتم إلا احتلال ونرفض التدويل، وأمر سيناء فى يد مصر، سيناء مصرية مائة فى المائة ولا نملك فيها شبرًا واحدًا يمكننا التفريط فيه”.
لقد كانت سيناء كلمة السر في مسألة الأمن القومي المصري على امتداد تاريخها، كما تعتبر سيناء الجزء الآسيوي في مصر حيث تربط قارة أفريقيا بقارة آسيا، وقد مرت بالعديد من المحطات الفاصلة في تاريخ مصر القديم والحديث وربما أشهر هذه المحطات هي حرب أكتوبر المجيدة، كانت سيناء لموقعها الجغرافي للكثير من أعداء الوطن، وذلك نظراً ولاتزال مطمعاً والاستراتيجي، حيث إنها المفتاح لموقع مصر العبقري في قلب العالم بقاراته وحضاراته.
ولا تزال أرض الفيروز صامدة ضد كل ما يُحاك لها من تآمر وتخطيط وافتعال للمشاكل والأزمات، وما تتعرض له من مؤامرات لمحاولة زرع التنظيمات المتطرفة التي أرادت السيطرة على سيناء لفصلها عن الوطن الأم خلال عشر سنوات كانت سيناء على موعد آخر من البطولة، في مواجهة تنظيمات إرهابية سعت لعزل سيناء ورفع الرايات السوداء، مثلما جرى في دول من حولنا، لكن أبطال القوات المسلحة والشرطة ومعهم أهالي سيناء، تصدوا للإرهاب الذى تحطم على صخرة بطولات أبنائنا، ليعيدوا أساطير الآباء والأجداد، قبل 51 عاما عندما عبروا في الظهر لتحرير سيناء
من الاحتلال، وجددوا البطولة لتحريرها وتطهيرها من الإرهاب بدماء شهداء وجرحى من أبطال القوات المسلحة والشرطة وأهالي سيناء، بثمن كبير من الدم والمال، لتظل شاهدة على هذه البطولة وقدرة الشعب المصري على مواجهة التحديات والصمود. أهالى سيناء لهم على مر التاريخ بطولات كثيرة جدا وهم جزء اصيل من أهالى مصر ويحملون كل صفات المصريين من من المروءة والباسلة والوطنية، ولا شك فى ذلك على الاطلاق، وفى حرب أكتوبر كان لهم دور كبير جدا وكانوا معاونين لكل الجنود وتحملوا عناء الاحتلال فترة كبيرة جدا حتى حررنا الأرض وكانوا مع القوات التى عبرت. و تحملوا بعد ذلك عناء الإرهاب وكل التيارات التى جاءت من الشرق تهدد مصر فتعاملوا معها وكان لهم دور كبير فى مساعدة القوات المسلحة فى القضاء على الإرهاب لشهور وسنوات طويلة، وهى حرب حقيقية مكملة لتطهير مصر من كل عدو سواء كان إسرائيلى أو غير إسرائيلي، ففى النهاية هو يهدد امن هذا الوطن ويهدد المواطن المصرى وبالتالى هم لهم على مدار التاريخ المصرى العديد والعديد من المواقف البطولية الحقيقية كما انهم جزء من شعب مصر.
في النهاية، يمكن القول إن البطولات التي سجلها بدو سيناء خلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة، والموقف الجماعي لقبائل سيناء في مؤتمر الحسنة، جميعها تمثل صفحة نضال مجيدة يضمها كتاب كفاح هذا الشعب ضد المحتل الإسرائيلي، وتجسيدًا لصورة مشرقة يجب أن يترجمها الواقع الراهن من خلال المحافظة على ذاكرة الوطن ومعرفة الأجيال المتعاقبة بهذه التضحيات، وأن تمثل هذه التضحيات ومضامينها رسالة وقوة دفع حقيقية لمواجهة التحديات والمخاطر الراهنة التي تواجه سيناء والدولة المصرية بشكل عام.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا