كان ملامحه الوديعة تشي بحزن عميق، رغم انه كان يعالجها في بعض الأحيان بابتسامة ودودة، كنت اترقب مواعيد درس اللغة العربية لكي اجدَّد حلم المستقبل، في أصبح مثله، وانا انظر إليه، بخصلات شعره الفضية، ووجهه الأبيض المُشعّ، واناقته اللافتة، وتواضعه الجمّ، وأن أكون شاعرا مثله، لم يك أحدا يعرف سرّ ذلك الحزن المسيطر عليه، وبخاصة حينما كان يخلو بنفسه.
كان أبي يطلب من والدتي أن ترسل بيدي (صينية) طعام ايام الجمع، افرح كثيرا بهذه المهمة، اطرق الباب على الأستاذ (عبد الحميد النادر) يشكرني كثيرا، ويهمس في اذني مبتسما:
-ارجو ان تعلم.. ان هذه الصينية، لن تشفع لك في الامتحان.
أرد عليه بخجل وارتباك:
-اكيد أستاذ..
يُربَّت على كتفي، ويعلن تقديره واحترامه لأبي الذي كان يطلق عليه (أستاذنا الفاضل).
كنت شغوفا بدرس اللغة العربية، ربما يرجع الأمر الى محبتي للاستاذ (النادر) كان يقول حينما يوزع أوراق الامتحان:
-اريدكم تكونون بمستوى ذكاء (ابو صينية الجمعة).
ثم يطلق ضحكة مكتومة، لا تريد الانفلات من داخله، لتبقى حبيسة ذلك الحزن القاتل.
ذات مرّة.. ارسلتني أمي إلى السوق، لاشتري لها (مكناسة خوص) بدلا من التي هرمت، في الطريق، وعند وصولي الى بيت (النادر) خطرت لي فكرة خبيثة، في ان اتلصَّص عليه من الشباك المُطلِّ على غرفته، وضعتُ يدي على الزجاج لكي احصر نظري، واتجنب مسقط الضوء الخارجي، رأيت منظرا جعلني اعود ادراجي إلى البيت، وثمة دمعات تأبى السقوط من المآقي.
استقبلتني امي بفزع:
-شبيك يمه، اشو ترتعد مثل السعفة، وين المكناسة؟!
لم يعرف أحدا سبب موت الاستاذ (عبد الحميد النادر) إلا أنا، كنت قريبا جدا من مشهده الأخير في الحياة، كان يمسك بيده صورة زوجته الراحلة، هبطت الدموع من عينيه بغزارة، حتى خُيَّل لي عندما كنت أنظر من الشباك، بأنها ملأت ارضية الغرفة، بعدها استلقى (النادر) على سريره الحديدي القديم، وقد ارتسمت على وجهه المُشعّ ابتسامة شفيفة، واضعا صورة زوجته فوق صدره.
ثم.. غفا اغفاءته الأخيرة.