هل تدرك الغزالة أنها ستموت؟ وهل تعلم العصفورة أنها ستتوقف عن التحليق حين تغادر الحياة؟ ثم هل يعي الفهد أن أنيابه ستباع يومًا كهدية تذكارية لزوار غابات أفريقيا؟ وهل يتوقع ملك الغابة أنه ستأتي ساعة تغدو فيه جيفته وليمة شهية لدود الأرض؟.
الحق أن العلم لم يثبت حتى الآن أن أيًا من الكائنات الحية يدرك أنه سيموت سوى الإنسان، فالحيوانات لا تملك نعمة الوعي بذاتها وماضيها ومستقبلها. إن جميع الطيور والحيوانات تتحرك وفق برنامج غريزي قابل للتطور ضمن منظومة غريزية أخرى هدفها الأول البقاء على قيد الحياة وسط صراعات شرسة لا تعرف الرحمة.
أما الإنسان فقد عرف منذ زمن بعيد أنه سيموت حتى لو بلغ من العمر أرذله، بل سيقوم من الأموات ويحاسب على ما فعله في الأرض. ومن عجب أن هذا الإدراك الحزين بالموت هو السبب الأول وراء تطور الإنسان، وسأشرح ذلك توًا.
لا نعرف متى بالضبط أيقن الإنسان أن حياته ستتوقف يومًا، وأنه سيصبح نسيًا منسيًا. هذا الوعي الحاد بالموت هو الذي أزعج الإنسان بشدة، فقرر مجابهة الغياب المحتوم بتكثيف الحضور، لعله يحظى بنعمة الخلود بعد مغادرة الحياة.
في رحلة البحث عن الخلود واصطياده، وهو هدف حيوي أمسك بتلابيب البشر، كل البشر، أقول في رحلة البحث هذه عكف الإنسان على تطوير مهاراته، حتى يصنع شيئا مفيدًا قادرًا على البقاء بعد رحيل صانعه، ليصبح شاهدًا على مهاراته وتفرده.
على سبيل المثال، فإن الهرم الأكبر بالجيزة يعد من أقدم الآثار المبهرة التي بناها الإنسان ومازالت تذهل الناس من قرن إلى آخر. هذا الهرم البديع هو أكبر دليل على ما نقول أن للموت فوائد عظيمة. فالذي بنى الهرم أدرك أنه ميت لا محالة، لذا حاول مقاومة هذا القدر القاسي بتخليد نفسه عبر إنجاز عجيب يظل شاهدًا على أن هذا الباني عاش هنا.
تخيل معي حجم العلوم التي تطورت من أجل بناء الهرم، فهناك علوم الهندسة والعمارة والرياضيات وفنون التصميم والنحت والرسم وعلوم الطب والتحنيط إلى آخره. أي أن وعي الإنسان بموته هو الذي دفعه إلى تطوير معارفه في الحياة عسى أن ينجز عملا يوفر له نعمة الخلود.
أجل… من الرفض النفسي القاطع لوحش الموت، ومن الخوف الشديد منه انطلق الإنسان يفكر ويصنع ويبتكر ويكتب ويرسم وينحت ويطور عسى أن يترك أثرًا يحميه من تلك الفكرة المخيفة، فكرة الاختفاء من على وجه الأرض!
هكذا يواجه المرء غول الموت بأكثر من حيلة: بالزواج والإنجاب، بالهوس في جمع المال، بالإبداع، بالابتكار، بالاستحواذ على سُلطة، وكلما توغل الإنسان في (تطوير) حيلته ظن أنه يطرد الموت بعيدًا.
أرأيت… هذه فوائد الموت… تطوير الحياة وتيسير سبل العيش. ورغم الحزن الذي يسببه الموت للأقارب والأصداقاء، إلا أنه يؤكد القانون الحتمي: الموت هو هزيمة الفرد من أجل انتصار النوع، أي من أجل حياة أكثر يسرًا وجمالا لمليارات البشر.