مازالت إسرائيل بعيدة عن تحقيق النصر الحاسم الذي يتيح لها فرض شروطها كاملة على مائدة المفاوضات، وهي تعرف أنها لن تستطيع إنجاز هذا النصر العصي، الذي يزداد بعدا يوما بعد يوم، بينما تسابق الإدارة الأمريكية الزمن للوصول إلى حل تفاوضي يسجل لصالحها، ويساعد المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس في الانتخابات الرئاسية الحالية، لذلك أرسلت إلى الشرق الأوسط خلال الأسبوع الماضي أربعة من أرفع دبلوماسييها دفعة واحدة؛ وزير الخارجية ومدير الاستخبارات المركزية والمبعوث الرسمي والمستشار الشخصي للرئيس بايدن، وقد أخفق هؤلاء جميعا في أداء مهمتهم لسببين مهمين؛ الأول أنهم لم يكونوا صادقين عادلين، وإنما مارسوا لعبة التذاكي الأمريكي المكشوفة والمرفوضة، والثاني أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لم يرد تقديم هدية الحل لإدارة بايدن، واحتفظ بها لحليفه الأقرب دونالد ترامب إذا فاز في الانتخابات.
أمريكا تدرك جيدا أن إسرائيل لم تستطع تغيير المعادلة الإستراتيجية لميزان الحرب، رغم إسرافها في القتل والتدمير وجرائم الإبادة، فالمقاومة الفلسطينية مازالت بعد 13 شهرا من الحرب قادرة على أن ترد وتضرب في كل أنحاء غزة، شمالها وجنوبها، وحاضنتها الشعبية تزداد قوة وتماسكا وصمودا داخل فلسطين وخارجها، وكذلك الأمر بالنسبة لحزب الله، الذي استطاع أن يستوعب الضربات المباغتة التي تلقاها في سبتمبر الماضي، وصار الآن يحارب ندا لند، يضرب في العمق الإسرائيلي، ويستنزف قوات التدخل البري، وهو ماجعل الإسرائيليين يراجعون أهداف ونتائج حملتهم، ويبحثون عن مخرج يحفظ لهم ماء الوجه.
وقد عبر سياسيون وعسكريون إسرائيليون خلال الأيام القليلة الماضية عن (وجع عام) مما وصلت إليه الأمور، وظهرت حالات من التململ والتألم لدى الجنود في ميدان الحرب، خاصة في الجنوب اللبناني، حيث كانت الخسائر البشرية والمادية كبيرة، وقد لخصت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية هذه الحالة حين ذكرت في افتتاحيتها أن أكتوبر 2024 كان أكثر الشهور دموية منذ هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023.
وبسبب هذا الوجع العام عادت تظاهرات أهالي الأسرى ومؤيديهم ضد حكومة نتنياهو، تتهمها بالفشل والعجز والمماطلة في إنجاز صفقة إنهاء الحرب واستعادة ذويهم، وتقول لنتنياهو في مواجهته: “عار عليك مايحدث، يجب أن تخجل من نفسك، أنت السبب في قتل أبنائنا”.
ورغم اعتراف نتنياهو بأن “إسرائيل تخوض حربا وجودية صعبة ومؤلمة، وتدفع أثمانا باهظة”، إلا أن حكومته الفاشية تقف ضد أية إمكانية لوقف الحرب، ليس لأهداف أمنية وعسكرية، وإنما لأهداف أيديولوجية توسعية استيطانية بعيدة المدى، وهو ما جعل وزير الدفاع يوآف جالانت يدخل في مواجهة علنية مع نتنياهو، فقد ذكر في رسالة إلى المسؤولين السياسيين والأمنيين الإسرائيليين أن “الحرب تدار دون بوصلة واضحة، ومن الضروري تحديث أهدافها”، وفي تصريحات أخرى قال: “إن إعادة المختطفين تتطلب إبرام صفقة وتقديم تنازلات مؤلمة، لأنه ليس كل هدف يمكن تحقيقه بعملية عسكرية”.
في هذه الأجواء المشحونة جاء المبعوثون الأمريكيون الأربعة بحثا عن اتفاق جديد، يحقق لإسرائيل أهدافها التي لم تتحقق في ميدان الحرب، لكنهم فشلوا في مهمتهم، لأنها بنيت على فرضية خاطئة، لا تعرف طبيعة المقاومة، وتتصور أن نجاح إسرائيل في قتل الشهيد يحيى السنوار وقادة حزب الله يكفي لإعلان النصر والتسليم بشروط نتنياهو، فقد رفضت المقاومة الفلسطينية عروضهم قولا واحدا، ورفضت الدولة اللبنانية وحزب الله من حيث المبدأ التفاوض تحت النار، واشترطا وقف الحرب أولا، ومن ثم تعثرت المفاوضات، ولم يجد مدير الاستخبارات ويليام بيرنز والمبعوث الخاص آموس هوكشتاين والمستشار الرئاسي بريت ماكفورك مفرا من العودة مباشرة إلى واشنطن بخفي حنين.
أما وزير الخارجية أنتوني بلينكن فقد مد جولته إلى الدوحة وعقد فيها مؤتمرا صحفيا حاول خلاله أن يلعب (لعبة التذاكي الأمريكية)، فيلتف على مبادرة بايدن لوقف الحرب وتبادل الأسرى، التى وثقها قرار مجلس الأمن ووافقت عليها المقاومة، حيث ادعى أن إسرائيل قوية الآن، وحققت النصر الذي تريده، وأن قتل السنوار يفتح طريقا للحل، والمطلوب أن ننتظر من حماس الموافقة على ألا تعود إلى غزة بعد إنهاء الحرب، وهذا ـ كما هو واضح ـ كلام مفخخ، يضيف شرطا جديدا وضعه نتنياهو لم يكن موجودا في مبادرة بايدن، ولا في قرار مجلس الأمن، يقضي بعدم عودة حماس، وبالطبع لم تقبل به المقاومة، لذلك انضم بلينكن إلى البعثة الفاشلة ولحق بها.
لم يكن السنوار بمثل العقدة في الحل التفاوضي، لأنه شخصيا وافق عليها، وإنما العقدة كانت دائما في نتنياهو الذي رفض مبادرة بايدن وقرار مجلس الأمن، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي إلى الاعتراض عليه قائلا: “إن نتنياهو لم يبذل جهدا كافيا من أجل الوصول إلى حل”.
إن محاولات فرض الاستسلام على المقاومة في غزة ولبنان باتت فوق طاقة أمريكا وإسرائيل وحلفائهما، فالمقاومة الفلسطينية مازالت تقاتل بأشرس مما كانت عليه في بداية الحرب، وكل يوم هناك خسائر أكثر في صفوف جيش الاحتلال، واستنزاف كبير للقدرات البشرية والمادية، والنتيجة واضحة على وجوه قادة الجيش، تعكس حالة من التعب والإنهاك والإحباط، كما فشلت الحرب في لبنان، وظهر حزب الله أقوى بكثير مما كانت تظن إسرائيل، واصطفت الدولة اللبنانية إلى جانب المقاومة، وثبت أن اللعب في لبنان مستحيل، فلا مجال لإضافات على قرار مجلس الأمن 1701، ولا مجال لحديث عن استباحة السيادة اللبنانية أرضا وجوا وبحرا.