منذ النصف الثاني من عقد التسعينيات ، كانت كرة القدم هي قبلتي الانتمائية ، التي عشقتها إلى حد الوله وزهوت في غيابتها حتى الثمالة ،،،
أخذت بتلابيبي أسيراً ، مابرحت عنها وما برحت مني ، ورسمت على جبهتي كل تجاعيد التفاعل من أفراحٍ وأتراح ، وفي بحر سنواتٍ قليلات ، كان تاريخ كرة القدم كأرشيف محفوظ في قاع قريحتي الطفولية مسطوراً مصبوباً، لا أستطيع منه فكاكا ولات حين مناص ،،
وكانت سير الأقدمين والمعاصرين من اللاعبين ، هي جُل رصيدي من المعرفة الإنسانية ، ولا غرو في ذلك لأن المناخ البيئي والمجتمعي وقتئذ ، كان يقوم على ركيزتين لا ثالث لهما الرياضة والفن ، وقد بلغت عليّا شقوتي الطفولية ، أن أنافح عن كرة القدم كأنها علم الأولين والآخرين ، فكلفني ذلك كثيراً من طيش الطفولة وعدم التريث ، بالتشنؤ والتباغض مع الغير ، فهذا من وعد الشيطان ، إن وعده كان غرورا ….
بيد أنه بمرور السنوات تترى ، تحرر الفكر من سُباته ، ونضج بعض الشيء من جفوته ، مستشرفاً بأجل العلوم وأنفعها وأطيبها ، وليس معنى ذلك هجري لكرة القدم بالكلية ، فهي ليست رجزا، وإن بقيت متابعتي لها ثانوية قشرية ، حسبما تقتضيه الحالة المزاجية ، ويا حبذا أنها من الأنشطة الإنسانية ، التي تدخل في مشروعية الكتابة ، فذلك عهدي الأبدي مع شمولية الكتابة ما دمت حيا …..
وبما أن حديثي في هذا المقام منصباً على كرة القدم خصيصاً، فقد كنت أرى ولازلت ، في صانعي الألعاب بؤرة الجاذبية ، وحظوة الجماهيرية ، فما نسيت رضا عبدالعال ومجدي طلبه في الزمالك والأهلي ، وأحمد العجوز وفكري الصغير ومحمد بركات وأحمد حسن في الإسماعيلي ، ومحمد عبدالجليل ووليد صلاح الدين في الأهلى ، وعبدالستار صبري في المقاولين العرب ، وحازم إمام وطارق مصطفى وتامر عبدالحميد في الزمالك ، وأحمد الكاس في الأوليمبى ثم الزمالك ، وتامر بجاتو في المنصورة ، وخالد عيد في المحلة وأحمد ساري في الاتحاد السكندري الخ ….
وفي مطلع الألفية المعاصرة ، كنت شاخص ببصري ، إلى بعض لاعبي خط الوسط وصناع الألعاب في الأندية غير المشهورة ، فأبديت إعجابي الشخصي بالمحمدين أبوتريكة وعبد الواحد في الترسانة ، فتمنيت للأول على وجه الدقة، أن تظفر به عيون الأندية الكبرى ، لتتنامى حظوته الموهبية والجماهيرية ، ولا أخفي أنني تمنيته في الأهلي يومئذٍ ،،،
كان هذا في عام 2002 م إن لم تخني الذاكرة ، وسرعان ما تحققت نبوءتي ، إذ حل أبوتريكة ضيفاً كريماً ، محفوداً محشوداً، موفوداً محظوظاً ، منذ وطأت قدميه عتبة النادي الأهلي ، بمبلغ 450 ألف جنيه آنئذ ،،،
استطاع أبوتريكة أن يتحول إلى ظاهرة غير مسبوقة في الحياة المصرية على كل صعيد ، واجتمعت في نواحى سيكولوجيته ، أشتات الملكات التي يتغياها كل امرىء لبيب ، حتى صار في سنوات معدودات قريناً بسعادة المصريين، في ثلاثة مناسبات أفريقية متتالية ، 2006 و2008 و2010 م ، فضلاً عن تربعه على العرش الأهلاوي لعباً وخلقاً وتواضعاً وإيثاراً …
رسخ أبوتريكة في نفسي كثيراً من الانطباعات الشعورية المكتسبة ، التي كنت قد أيقنتها في الصغر ، ذلك رجع بعيد ، ذلك أن صانع الألعاب ( البلى ميكر ) ، أو محور الارتكاز ( هاف دفندر ) في أكثر الأحيان في الفريق ، هما الحركة الدائبة والآلة المحورية ، لجلب الحظ والمكسب ، وإلا ما وجدنا شهرة خالد الغندور وحازم إمام وحسام غالي ومحمد شوقي والعجوز وبركات وفكري الصغير وعبدالستار صبرى وشيكابالا وغيرهم ، تفوق شهرة أيمن منصور وعمرو ذكي وأحمد بلال وغيرهم ،،،
أما أبوتريكة هذا فهو نسيج وحده ، منقطع القرين ، الذي لم يفري أحد، مارس أي نوع من أنواع الرياضة في تاريخ مصر فريه ، بل إن شئت فقل إنه الضمير الإنساني الحي، وإن كان لاعب كرة، الذي عقمت النساء على إنجاب مثله في بقاع المعمورة لكثير من السنوات الخوالى ،،،
هو أفضل من أنجبت الرياضة المصرية مطلقاً، لاريب ولا مناص ،،،
وكانت أفضليته مبعوثة مدفوعة بدماثة أخلاقية غير معهودة ..
وأحسبه كذلك إذا وضعت في الاعتبار، أفول زمننا من الشموس البشرية الدافئة ، على كل صعيد ومنحى ،،،
محمد محمد محمد أبوتريكة ظاهرة فريدة ، خطفت الأبصار في الداخل المصري ، وفي الخارج العربي والإفريقي والعالمي ،،،
كان اسمه وثيق الارتباط بالتميز على المستوى المحلي والدولي ، طيلة مسيرته الكروية ، وبعد اعتزاله لم تتزحزح شعبيته قيد أنمله ، في خطين متوازيين لم ينفصلان أبداً ،،
ولعَمرى إن أي شخصية ابتغت النجاح وناشدت المجد، لن تبغي عن الأخلاق حولا، وايم الله إن أخلاق أبوتريكة إن وزنت بأخلاق مئات الألوف من البشر، لربحت أخلاقه ، وتالله إن بدا لي أبوتريكة سياسياً لنال بأخلاقه نوبل للسلام ، وإن تأملته طبيباً لتداوى المرضى بابتسامته ، وإن حسبته داعية إسلامي لاحتواهم ببراءة طلعته وجليل هيبته ونبل فطرته ، وإن تعثرت في أذيالي تأسفاً على ضياع الأمانة والمروءة والفضيلة كماً وكيفاً في زمننا، لوجدتها في قليل من الناس أحدهم أبوتريكة ،،،،
ويبقى بره بوالديه وإيثاره على نفسه للخاص والعام ، مواثيق شرف سامقة شاهدة على رباطة جأشه وعلو شأنه ….
أخي في الله محمد محمد محمد أبوتريكة، أدام الله نعماءك وحرس حوباءك …
( كل عام وأنت على المحجة البيضاء ..