لم يقل أحد منهم أنه يتمنى ذلك بل قالوا إن العودة والعمل فى بلادهم الأصلية هى الخيارالأول لهم.
(هنا بوسطن)
الزمان: الأحد الماضى الموافق العاشر من نوفمبر
الوقت: الساعة ١٢ ظهراً بتوقيت أمريكا
المكان: منطقة الجامعات فى مدينة بوسطن عاصمة ولاية ماساشوستس الأمريكية
المناسبة: دعوة كريمة من الزميل والصديق الأمريكى توماس هيل وهو صحفى حر ومراسل متجول لف العالم كله تقريباً ويسكن فى بوسطن، تعرفت عليه منذ سنوات فى إحدى المناسبات التى كنا نغطيها صحفياً. وعندما عرف بوجودى فى أمريكا هذه المرة دعانى لعمل جولة فى المنطقة التى تضم عددا من أشهر الجامعات على مستوى العالم، كان موعدنا الساعة ١١ ظهراً على كافيه فى ميدان هارفارد حيث جاء توماس مهرولاً من مكتبه. وبمجرد أن انتهينا من تناول الإفطار والقهوة، وقبل أن نبدأ الجولة الموعودة تلقى توماس اتصالاً هاتفياً من زوجته التى بدا من ردود فعل قسمات وجهه أنها تطلب منه شراء بعض المستلزمات التى لا تحتمل التأجيل، فاستأذن منى ليقضيها لها على أن يعود لى بعد ساعتين، طالباً منى أن استمتع بجولتى وحدى حتى يعود، ثم طار وأنا أودعه ساخراً: حتى أنت يا توماس؟! فقال وهو يجري: لا فرق يا صديقى كلنا هذا الزوج حتى لو سكنا فوق سطح القمر!
كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ظهراً، وقفت متردداً من أين أبدأ عندما انشقت الأرض عن شاب فى العشرينيات يرتدى الملابس التى يرتديها العجم، ومن خبرتى توقعت أنه إما هندى أو بنجالى أو باكستاني. لم يتركنى للحيرة بل قدم لى نفسه بلغة إنجليزية تدل أنه مولود هنا وليس مجرد زائر: حسين جاويد بنجالى أمريكي. وقبل أن أقدم له نفسى سألني: هل تريد أن تصلي؟! أومأت بالإيجاب ولكن مع نظرة دهشة تعنى كيف وأين، فهم الشاب ردى وتساؤلاتى التى لم أفصح عنهاصراحة وطلب منى أن أتبعه بعد أن أخبرنى أنه هو أيضاً ذاهب ليصلى الظهر.
كان الشاب يشق طريقه بسهولة وسرعة شديدة وسط الزحام وأنا أحاول اللحاق به بصعوبة. وكدت أن أفقد أثره لولا أنه انتبه فبطأ من سرعته وكانت فرصة لأن أسأله هل هناك مسجد قريب من هنا؟ فقال: نعم سنصلى فى مسجد جامعة هارفارد، ظننت أنى قد سمعت الكلمة خطأ لكنه أكدلى المعلومة وأننا علينا أن نسرع لنلحق بصلاة الجماعة.. دخلنا الجامعة وقادنى إلى الطابق الثالث حيث حولت إدارة الجامعة مكتبة كبيرة كانت فى هذا الطابق إلى جامع كبير نصفه للطلبة والآخر للطالبات بعد أن ارتفع عدد المسلمين الذين يدرسون فى جامعة هارفارد.
(السير نحو «إم آى تي»)
انتهينا من الوضوء وكان لا يزال متبقياً على الإقامة وقت طويل. فى تلك الأثناء عرفت أن الشاب يدرس هندسة الكومبيوتر بمنحة كاملة حصل عليها من جامعة «إم آى تي» وهو اختصار جامعة ماساشوستس للتكنولوجيا ببوسطن والمجاورة لهارفارد والمصنفة فى الترتيب الثانى عالمياً فى مجال تكنولوجيا المعلومات بعد أكسفورد لندن ويليها فى المركز الثالث هارفارد وفى الرابع جامعة كامبريدج بريطانيا.
كان حسين مرتبطاً بمحاضرة فى جامعته فقال لي: اسمع هل أتركك هنا تنتظر صلاة الجماعة أم تأتى لتصلى معى فى كامبريدج؟ ظننته يمزح فقلت له هل تمتلك بساط الريح لنلحق به صلاة الظهر فى لندن؟! فضحك قائلاً: متأسف لم أشرح لك أن جامعتى فى منطقة كامبريدج هنا فى بوسطن على بعد دقائق من هنا وفيها أيضاً مسجد كبير نستطيع أن نصلى هناك حتى أكون قريباً من محاضرتى المقبلة. وبالفعل سرنا على الأقدام حوالى ثمانى دقائق من مكان جامعة هارفارد إلى جامعة «أم آى تي» ولكن مشية رياضية سريعة.
ربما لو كنت بمفردى وبخطواتى المعتادة لاستغرقت نصف ساعة وأكثر. ثم وصلنا مسجد الجامعة الذى كان أصغر مساحة من مسجد هارفارد، وكان ممتلئاً عن آخره بطلبة من كل الجنسيات العربية والإفريقية والآسيوية منهم مصريون وسعوديون وتوانسة وأردنيون وهنود وباكستانيون ومثلما هو الوضع فى مسجد جامعة هارفارد تم اقتطاع جزء من مسجد جامعة «إم آى تي» للطالبات.
أبناؤنا فى بوسطن
فور انتهاء الصلاة لفت نظرى وجود عدد كبير من المصريين تعرفت على عدد كبير منهم بقدر ما سمح الوقت حيث أغلب الطلبة يستأذنون من المحاضرين للصلاة والعودة لقاعات الدرس. عدد كبير منهم يدرس فى أمريكا بمنح كاملة حصلوا عليها من الجامعات الأمريكية. أغلبهم يدرسون الفيزياء وعلوم الكومبيوتر، كما التقيت مصرياً يدرس العلوم التاريخية وعرفت منه أن هناك قسما مخصصا للدراسات الإسلامية يدرس به عدد كبير من الأجانب ومنهم غير مسلمين ممن تستهويهم الدراسة عن الإسلام وتاريخه. لعل أكثر ما أدهشنى وأسعدنى فى الوقت نفسه أن غالبية الطلبة العرب لا يخططون للاستمرار فى أمريكا بعد انتهاء الدراسة، رغم أن خريجى مثل تلك الجامعات تحرص الشركات الكبرى على توقيع عقود عمل معهم برواتب مغرية، بل بعض الشركات تتعاقد مع النابهين منهم وهم لا يزالون فى الدراسة خاصة جامعة «إم آى تي» المتخصصة فى العلوم التكنولوجية ولمزيد من الإغراءات تمنحهم هذه الشركات رعاية رسمية تضمن لهم الحصول على الجنسية الأمريكية بسرعة شديدة ومع ذلك لم يقل أحد منهم أنه يتمنى ذلك بل قالوا إن العودة والعمل فى بلادهم الأصلية هى الخيارالأول لهم. شيء جميل أن يكون هذا هو تفكير من يفترض بهم أنهم نواة لمستقبل أوطاننا. قلت لأحدهم أنه ربما يقول هذا لأنه وإلى حد كبير سيكون ضامناً لوظيفة مرموقة فى بلده باعتباره خريجاً من أهم جامعات العالم، لكنه أقسم أن الموضوع ليس كذلك وأن رغبته فى العودة لبلده لا تعنى أنه ضامن لأى عمل، لكن الموضوع اختيارات وأنه اختار التعليم المتميز طالما سنحت الفرصة لكنه لا يود اختيار الغربة مهما كان بها من إغراءات.
أعجبنى منطق الشاب وتذكرت أنه فى عام ١٩٩٤ وفى أول زيارة للولايات المتحدة أتيحت لى فرصة الحصول على منحة وإقامة رسمية وكنت على وشك الموافقة لكن عندما عرفت أن أهم شرط هو عدم العودة إلى مصر لمدة عام متواصل منذ لحظة قبولى للعرض رفضت على الفور. ورغم ندمى بعدها لكن أعتقد لو تكرر العرض مرة أخرى بنفس الشرط لكنت أيضاً رفضت حتى لو تكرر ندمي!
المهم، انفض الطلبة وعادوا مسرعين إلى محاضراتهم كما غادرنى حسين ليلحق بدروسه وبقيت منتظراً صديقى توماس الذى ضحك كثيراً عندما عاد معتذراً نيابة عن زوجته التى تسببت فى تركه لى وحيداً، فطلبت منه على العكس أن يشكرها نيابة عنى لأن غيابه أتاح لى فرصة فريدة من نوعها هى أن أتوضأ فى جامعة «هارفارد» واصلى فى جامعة إم آى تى «بكامبريدج». وبدأنا جولتنا توماس وأنا، وربما نفرد لها رسالة أخرى لسرد تفاصيل يوم جميل قضيته فى منطقة كامبريدج حيث أهم الجامعات على مستوى العالم.
نهاية الرحلة
لو تحدثت كثيراً عن الملائكة فبعد قليل ستسمع رفرفة أجنحتها تحيط بك مثل أمريكى