ينبغي أن تكون الكتابة محلقة في فضاءات الحرية؛ ولا يعني ذلك الانفلات الموضوعي من الضواط القانونية والقواعد المهنية استهدافاً لتحقق بناء الوعي حول كافة القضايا المهمة والتي تحفُّ بمشكلات الناس وإداركهم لبواطن الخطابات الكثيفة التي تفعل فعلها في تضليل الوجدان الشعبوي.
الرؤية للقضايا من خارج الصندوق لا تكون فعل العشواء؛ لأنها في حقيقتها محكومة بالمنهج الحديث الذي يتولى التَّحْفير في الخطاب المُعبِّر عن القضايا فيكتشف المُضْمر بهذا الخطاب. إذ أن كل كتابة تحمل رسالة من العقل المنتج؛ ولها مستهدف مطلوب ويجري استصناع قدرات التأثير به لتحقيق مبتغاه.
“الرؤية من خارج الصندوق” مَيِّزَة لا تتوفر للكثير من الكُتَّاب حسب منهجيات التفكيك والتحليل. فالكاتب السياسوي في مقصوده يستهدف استصناع أغلبية شعبوية حول الموضوعة التي يكتب حولها؛ بما يخدم مشروعه السياسوي والمرتبط بقناعاته الذاتية؛ والتي يكشفها معدل الدوران محيطاً بموضوعها.
وأغلبية الكتاب الذين يتحركون في الفضاء الافتراضوي يقوم تفكيك نوعية خطابهم بإظهار قائمة مضمرة من المستهدفات التي تمثل أجندتهم الذاتية في القراءة والكتابة والمحكومة بوجدانياتهم الكامنة والمضمرة؛ وتكشفها محاولات القراءة التفكيكية لتبيان مقصودها الحقيقي المختبئ بين السطور.
*****
المؤسف أنك حين ترصد “خطابات النخبة” في الفضاء الافتراضوي تضع يدك على خطابات عناصر لا تمارس منهجية القراءة من خارج الصندوق؛ لذلك يكون خطابها محكوماً بقناعات الوجدان الذاتي الإجباري.
** فـ “الكاتب المتأخون/ البنَّائي” ـ على سبيل المثال ـ لا يمكن له؛ وليست لديه مهارة الخروج في الرؤية عن الثوابت التي جرت تربيته عليها في سراديب الجماعة؛ فيعلن دوماً عداءاته المستمرة لنظام الدولة؛ ويتولى تشويه أية منجزات متحققة؛ كرد فعل لإزاحة جماعته من مقعد السلطة، وهو ما حَرَمَ جماعته البنائية من تنفيذ مستهدفها الكذوب بإنشاء “دولة المرشد” محكومة بما رسَّخَه حسن الساعاتي البناء على نسق “دولة الفقيه” الفارسية؛ تحقيقاً لتدمير نمط الدولة الوطنية.
** و”الكاتب المتنشط/ الدولاراتي” بانتمائه الهابط لما يسمى “جمعيات المجتمع المدني”؛ لا يتوقف عن مضغ لفظة “الديموقراطية” ليل نهار؛ وتشويه دور الجيوش الوطنية في حفظ سلامة مجتمعاتها والمشاركة في مشروعات التنمية الوطنية وفق المفاهيم الحديثة الحاكمة لتحولات أدوار المؤسسات العسكريتارية بحفظ الأمن الخارجي والداخلي حسب قدراتها المتفوقة. وهذه التحولات تأتي على نسق ما تقوم به المؤسسات العسكرية الغربية والشرقية كذلك وتشابهها في الاهتمامات والفعاليات.
** و”الكاتب العقدوي/ الماضوي” لا يعرف كيف يتجاوز ماضوية القناعات والمرويات التي جرت قولبته وفق مناهجها. فهو لا يتذكر أن العقيدة تفرض على المؤمن أن يمارس فعالية التأمل والتفكر للوصول إلى القناعات التي تثبت أحقية قناعاته.
فهذه النوعية لا تزال أسيرة المفهوم الزماني المُعبر عنه وفق زمان نزول النص (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة). والمعروف أن الخالق سبحانة وتعالى أتاح للبشر المخلوق إمكانية إنتاج أدوات التجوال في الكوكب وخارجه (سفن الفضاء والمسابير والصواريخ) لاكتشاف قدرته جلَّ وعلا في الكون. لذلك تبقى هذه النوعية محكومة بمنظومة مصمتة من المرويات والمفاهيم الجامدة؛ ليبقى الماضي متحكما في الحاضر والمستقبل ومعيقاً لأية نهضة مستهدفة.
** و”الكاتب المتأدلج/ الماركسي” من مربع إيديولجيته النظرية لا يلتفت إلى مدى ماضويته الفكرانية بعد سقوط وانهيار النظريات والنماذج التي تكهنت بهذه الموضوعة ولعل انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه سياسويا وتحولات الصين لتكون أنموذجا لرأسمالية الدولة تكفي لإشهار انقراض فعالية تلك النظرية وانقضاء صلاحياتها المستقبلية بانهيار مفهوم الطبقة العاملة البشرية وتعملق “الوجود الروبوتي” في عمليات الاستصناع الكثيف الجديدة بحكم اتساع الأسواق.
*****
لذلك فحين تكتب ينبغي أن تنظر للقضايا من “خارج الصندوق”؛ مزيحاً كافة الانتماءات الإيديولوجية المهيمنة لتضع يدك على الحقيقة المختبئة والمضمرة؛ وهذا لا يروق للكثيرين من مناضلي الفضاء الافتراضوي؛ وهم يستمتعون بـ “الولولة الشعبوية” من دون فهم أبعاد القضايا المُحرِّكَة. ألا ليتهم يُدركون فضيلة “الحرية المطلقة” من الانتماءات وهم يكتبون عبر الرؤية من خارج الصندوق!