في توقيت يثير الكثير من علامات الاستفهام انطوت صفحة “الأسد” وتنفس السوريون شيئا من الحرية المنقوصة والديمقراطية الغائبة بعد سنوات طويلة من الاقتتال والحرب الأهلية وتشريد الأبرياء من أبنائها
في مختلف بقاع الدنيا..
ولا معني للحرية دون أن تتحرر الأوطان من أعدائها الفعليين الذين اقتسموها واتخذوها لقمة سائغة ونفذوا بدقة استراتيجية إضعافها حتي أمست بقايا “وطن” وديكور “دولة”!.
غادر الأسد ، ربما بصفقة للنجاة بحياته ،وربما آثر الانسحاب لتجنيب البلاد مزيدا من الدماء والدمار،فربما يغفر له المولي عز وجل خطاياه الكبري بعد أن سمح لقوي دولية وإقليمية بأن تحتل مناطق في سوريا،وأسهم بسياساته في إضعاف الجيش والإقتصاد السوري، كما سمح بتدشين قواعد عسكرية روسية وأمريكية ومناطق تابعة لحزب الله وإيران، وأخري لتركيا،ولم يحرك ساكنا بعد ضربات متتالية للكيان الصهيوني لمطارات وأهداف عسكرية ،ومواقع لحزب الله في مختلف أنحاء سوريا خلال السنوات الأخيرة!.
أسدل الستار علي صفحة بشار الأسد وبدأ الاختبار الأعظم لكافة القوى الثورية الوطنية ،بما فيهم الجماعات المسلحة بمختلف أطيافهم وأيديولوجياتهم
مع التحفظ والشكوك التي تساور كل من يتابع المشهد السوري الراهن حول حقيقة نوايا هؤلاء وخاصة من القوي المصنفة ضمن قوائم الإرهاب في بلاد الشام، ولمصلحة من انتفضوا وارتدوا فجأة ثياب الوطنية والكفاح من أجل تدشين سوريا الجديدة!.
لا أحد في بلادنا يرفض الديمقراطية في أوج صورها وأبهي رونقها ،ولا الحرية والعدالة الاجتماعية ،فهي حقوق مشروعة لحياة آمنة في وطن آمن.. أما تتحول تلك الأمنيات إلي فوضي وتخريب وطن والعبث بمقدراته لصالح قوي تتأبط به شرا وتنوي به غدرا فهو مايليق بكل عربي حر يدرك تماما مفهوم كلمة “وطن”.
وقبل أن ننظر للمستقبل اتصور أن تعي هذه القوي الوطنيه وهذه الجماعات المسلحة “لو صدقت” دورس الماضي وحصاد ثورات الدول العربية ،المسماه زيفا بثورات “الربيع العربي” الذي انقلب في معظم بلدان العرب إلي “خريف مظلم طويل”، وبقيت آثاره الموجعة وتداعياته المؤسفة كما نراها الآن في العراق واليمن وليبيا والسودان والصومال ولبنان ،علاوة علي سوريا “النموذج الأسوأ”،وملتقي مصالح اللئام !.
ولم يعد هناك أدني شك في حقيقة المخطط الإستراتيجي لصناعة الفوضي “الخلاقة” وتفتيت الكيانات العربية إلي دويلات متناحرة،والقضاء علي قدراتها تباعا،وإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط الجديد وفقا لرؤي أمريكية وصهيونية وتوزيع خريطة المصالح وتوازنات القوي الإقليمية والدولية علي الأرض.
أتصور أن أبناء سوريا يجب ان يستوعبوا هذه الدروس،وأن يتوقفوا كثيرا بالفحص والدرس واستلهام حصاد التجارب السابقة قبل إعادة الحياة الطبيعية وتدشين مؤسسات الدولة ،وألا ينخدعوا بتصريحات الولايات المتحدة وحلفاؤها ،وألا يثقوا إلا بقدراتهم وإراداتهم، والتكاتف من أجل تحرير وطنهم من كافة القوي الخارجية وإحباط أطماعهم.
وأتصور أن التحرير الفعلي هو استرداد ما اغتصبته قوي الظلام من الداخل والخارج وفرض السيادة الكاملة علي مختلف بقاع سوريا والحفاظ علي وحدة أراضيها،واستيعاب الجميع بلا ديكتاتورية ولا طائفية ،أو تقسيم ومحاصصة، أو فاشية دينية،وهي مهام ليست بالأمر الهين وسط هذه المتغيرات المتلاحقة!.
كما أتصور أن الطريق إلي حرية كاملة وديمقراطية حقيقية كاملة الأركان وعدالة اجتماعية وتدشين تجربة سياسية إنسانية ثرية، مرهون بتفهم هذه الحقائق والحذر مما يحاك لسوريا خلف الكواليس ،وفقا لمعطيات سابقة وتجارب مريرة عاشتها الدول العربية وما تزال تكتوي بآثارها وتداعياتها المؤلمة!
ومما يدعو للأسي وربما الإحباط والتساؤل،أنه وسط نشوة شعب سوريا بتباشير الحرية والعودة إلى الديار، تحركت إسرائيل فورا علي الأرض لتحقق ما عجزت عن تحقيقه خلال سنوات عديدة لتقطف الثمار مبكرا في إطار سياستها الاستعمارية الانتهازية والصيد في الماء العكر.
تحرك الكيان الصهيوني سريعا مستثمرا أجواء التوتر والتوجس من القادم في سوريا،وحالة شبه الفراغ السياسي والأمني ،فجأة وبعد ساعات من سقوط نظام الأسد أعلن نتنياهو انتهاء اتفاقية “فك الاشتباك” مع سوريا الموقعة عام 1974، وأمرالجيش الاسرائيلى بالتوغل داخل المنطقة العازلة وجبل الشيخ ،
والاستيلاء عليها.
كما شن الطيران الحربى الإسرائيلى ضربات مركزة على دمشق مستهدفا مواقع عسكرية للجيش السورى ،كما تواردت أنباء عن تدمير بقايا من مقدرات الجيش السوري،حيث دمرت الغارات الإسرائيلية العشرات من الطائرات الحربية المقاتلة ومئات الدبابات وعددا كبير من منصات إطلاق الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي وصورايخ إس 300، كما أصابت أهدافا في البحرية السورية.
كما تورادت أنباء عن مخطط يتم تنفيذه لاغتيال عدد من علماء الذرة السوريين !
وهكذا تتكشف رويدا حقيقة مشهد “الدراماتيكيا السياسية”، المعد سلفا لإتخاذ خطوات فاعلة نحو تنفيذ أجندة التحولات والتغيير، فقد آن الأوان لحرق ورقة “بشار”، وإستبداله وتحقيق مكاسب جديدة ،فلا هو تدشين للديمقراطية جديدة أو إحياء لثورة مهيضة، ولا استرداد لوطن ،وإنما حلقة محكمة في مخطط رسم الخريطة الجديدة للمنطقة ،يتم تنفيذه بإحكام منقطع النظير ،وعلي رؤوس الأشهاد وفق إرادة أمريكية بالتنسيق مع كافة القوى الاممية والإقليمية، والتى ما تزال تؤدي أدوارا مشبوهةوتحركها أطماع نفعية وإرادة أمريكية!.
وسؤال الدهر الذي يطرحه الآن أحرار القوم بحجية العقل والمنطق.. هل تنوي المعارضة السورية الحرة المسلحة التى حررت الوطن من نظام ديكتاتورى مستبد أن تكمل ما بدأته وتنضوي تحت لواء المقاومة العادلة لإستعادة سوريا من اللصوص ،أم ستصمت حيال احتلال العدو الإسرائيلى لأراضى سورية جديدة إلى جانب الجولان المحتل سلفا؟!.
هل ستتحرك دفاعا عن أراضى سوريا، وحدودها ، ومقدراتها ،أم أن هذه نقرة وتلك نقرة أخرى، وستغض الطرف عما يحدث بتسارع شديد وكأنها لا ترى شيئا، لتؤكد أنها بالفعل ما هى إلا “أداة” و “عرائس جهنم” ،التي تلعب دورا مشبوها وترقص زهوا بنصر زائف لتنفيذ مخطط سابق التجهيز حسبما الدور المرسوم لها!.
ويبدو أن وهم التحرير كان فخا عظيما فقد رحل “الأسد” وبقي “الذئب الأكبر”، الذي يتربص بها شرا، وحتي إشعار آخر!.
وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد، ولاعزاء للصامتين مع تكرار سيناريوهات صناعة التوتر والفوضى ،تحت ستار الحرية وحقوق الإنسان ومتطلبات الانتقال الديمقراطي!.
لقدت حذرت مصر مرارا في كثير من المحافل وعبر مختلف قنواتها ومنصاتها السياسية والإستراتيجية والإعلامية من مغبة الإستهانة بهذه المخططات الخبيثة وتأثيرات علي الحاضر والمستقبل وجر المنطقة لصراعات جديدة. وأعلنت بكل قوة مواقفها المتزنة ،والتي لا تقبل التشكيك، أو المزايدة ،انطلاقا من عقيدتها الثابتة بالحفاظ علي جميع الكيانات العربية وخاصة في هذا التوقيت الحرج ، مع اتجاهات القوي الأممية الفاعلة في المنطقة لفرض قناعاتها وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وتشكيل تحالفات جديدة،ولا يعنيها في المقام الأول والأخير سوي مصالحها وحماية أمن إسرائيل وضمان تفوقها عسكريا واستراتيجيا.
كما أعلنت القاهرة مجددا ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي وسيادتها، ورفض أية محاولات لتقسيم سوريا أو التدخل في شؤونها الداخلية.
كما شددت على أهمية الحفاظ على الدولة السورية ومؤسساتها من الانهيار والتفكك، باعتبار ذلك ركيزة أساسية لضمان أمنها واستقرارها والمنطقة ككل.
كما لفتت أنظار أبناء سوريا إلي أن انهيار مؤسسات الدولة السورية سيؤدي إلى فراغ سياسي وأمني، وسيعزز انتشار الجماعات الإرهابية ويُفاقم الأزمة الإنسانية، لذا يجب الحفاظ على المؤسسات الوطنية، بما يضمن استمرار تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية للشعب السوري، ومنع أي فراغ يؤدي إلى تدهور الأوضاع.
كما أعلنت القاهرة عن إدانتها واستنكارهها لإستيلاء إسرائيل على المنطقة العازلة مع سوريا والمواقع القيادية المجاورة لها مؤكدة أن هذا يعد انتهاكا صارخا لسيادتها ومخالفة صريحة لاتفاق فض الاشتباك لعام 1974.
وكما أحبطت مصر بسياستها الحكيمة ومواقفها الحاسمة من قبل مخطط صفقة القرن وتهجير أهل غزة وتصفية القضية الفلسطينية للأبد ،وفتحت أحضانها لأهل سوريا وجميع الفارين من نير الحروب والنزاعات من مختلف الدول العربية ستظل حصن الأمن والأمان لكل العرب.
وتبقي “كلمة السر” في تفهم حقيقة المشهد بلا رتوش أو محاولة لتجميله ويجب أن يعي ثوار سوريا وكل العرب تلك الحقائق والحفاظ على ما بقي من مقدرات وكيانات عربية صامدة قبل فوات الأوان!.