تواجه مصر، التي تتمتع بموقع استراتيجي في قلب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ضغوطًا اقتصادية كبيرة تفاقمت بفعل الصراعات الإقليمية وحالة عدم الاستقرار الجيوسياسي.
أدت الأزمات المتعددة الأوجه الناجمة عن الحرب الإسرائيلية الفلسطينية، والحرب الأهلية السودانية، والأوضاع السياسية المتوترة في ليبيا، والحرب الروسية الأوكرانية، إلى تفاقم الضغوط الاقتصادية على القاهرة. ولا تؤثر هذه التحديات على الاقتصاد المصري فحسب، بل تهدد أيضًا الاستقرار الإقليمي. وفي ضوء هذه التحديات التي تواجهها مصر والمنطقة، تتوقع القاهرة من الولايات المتحدة أن تلعب دورًا داعمًا تجاه شريكها الاستراتيجي في المنطقة.
يؤثر التصور الدولي لعدم الاستقرار الإقليمي على الاقتصاد المحلي في مصر؛ حيث تمثل السياحة أكثر من 24 % من الناتج المحلي الإجمالي ويعمل بها أكثر من 2.5 مليون موظف. ومع ذلك، أدت المخاوف من انعدام الأمن في الدول المجاورة إلى تراجع أعداد الزوار الدوليين، حيث انخفض عدد السياح بنسبة تقدر بين 25-30 % خلال الفترة من 2010 إلى 2022 مقارنة بمستويات ما قبل النزاعات. وقد تسبب هذا التراجع في عائدات السياحة في زيادة الضغط على احتياطيات مصر من النقد الأجنبي، إذ تعتمد العمالة بشكل كبير على هذا القطاع في إيرادات النقد الأجنب ي والتوظيف.
تداعيات الحرب الإسرائيلية الفلسطينية:
أسفرت الحرب الدائرة في غزة عن تصاعد التوترات الإقليمية وزيادة حالة عدم الاستقرار الاقتصادي. وتواجه مصر، التي تشترك بحدود مع قطاع غزة وتلعب دور الوسيط الإقليمي، ضغوطًا متزايدة في النفقات الأمنية والتكاليف الإنسانية. كما أدى الصراع إلى تعطيل طرق التجارة، مما فاقم الضغط على موارد البلاد. وتنعكس حالة عدم الاستقرار الناتجة عن هذه الأزمة على ثقة المستثمرين في السوق المصرية، مما يقوض فرص النمو الاقتصادي في البلاد.
التأثير على قناة السويس: تؤثر الحرب أيضًا بشكل مباشر على قناة السويس، التي تُعد أحد أهم الأصول الاقتصادية الحيوية لمصر وممرًا تجاريًا عالميًا رئيسيًا، وتدر عائدات كبيرة على مصر من خلال رسوم عبور القناة. ومع ذلك، أسفر عدم الاستقرار الإقليمي، بما في ذلك النزاعات والحروب، عن تعطيل طرق الشحن وتشديد الحصار البحري، مما أعاق حركة التجارة. وأدت المخاوف الأمنية المتزايدة في المنطقة إلى زيادة رسوم التأمين على شركات الشحن، مما أثر بشكل جوهري على حجم التجارة التي تمر عبر القناة. علاوةً على ذلك، أثرت الحرب على ديناميكية التجارة الإقليمية وعلى أنماط الشحن العالمية، حيث أسهمت في تحويل مسارات التجارة وتقليص تدفق البضائع من البحر الأبيض المتوسط إلى البحر الأحمر. وقد أدى هذا الانخفاض في حركة المرور إلى انخفاض إيرادات القناة بنسبة 57% خلال الربع الثالث من السنة المالية (يناير إلى مارس 2024)، مما أثر سلبًا على الاقتصاد المصري الذي يعتمد بشكل كبير على هذه الإيرادات في موازنته الوطنية.
الحرب الأهلية السودانية: أثرت الحرب الأهلية السودانية بشكل كبير على مصر، خاصة فيما يتعلق بإدارة اللاجئين وأمن الحدود. فمنذ اندلاع النزاع المسلح في عام 2023، استقبلت مصر ما يقرب من 500 ألف لاجئ سوداني مسجل، إضافة إلى نحو مليون ومائتي ألف وافد سوداني جديد بشكل مفاجئ، مما فرض ضغوطًا إضافية على الخدمات العامة والبنية التحتية المصرية. كما أدى النزاع إلى تعطيل طرق التجارة الحيوية للاقتصاد المصري، ما أسهم في نقص السلع الأساسية وارتفاع معدلات التضخم.
الإسكان والإيجار: أدى توافد أعداد كبيرة من اللاجئين إلى فرض ضغوط هائلة على سوق الإسكان في مصر، لا سيما في مدن كالقاهرة والإسكندرية، التي تزايد فيها الطلب على المساكن ذات الأسعار المعتدلة. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار الإيجارات، واستقر العديد من اللاجئين في مناطق مكتظة سلفًا، مما جعل تكلفة السكن باهظة على اللاجئين والسكان المحليين على حد سواء. وتسهم هذه الزيادة في الإيجارات في تعميق أزمة السكن لأصحاب الدخل المحدود من المصريين، مما يزيد من التكدس السكاني ويعزز التوترات بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة.
خدمات الرعاية الصحية: تسبب تدفق اللاجئين الى مصر في زيادة الضغط على نظام الرعاية الصحية في مصر في وقت يحتاج العديد من اللاجئين فيه إلى رعاية طبية عاجلة، مما يرهق البنية التحتية التي تعاني أصلًا من نقص التمويل والموظفين. وتواجه المستشفيات والعيادات العامة عبئًا إضافيًا نتيجة ازدياد أعداد المرضى، مما يؤدي إلى طول فترات الانتظار، وتراجع جودة الرعاية، وزيادة التنافس على الموارد الطبية. ويترتب على هذا الوضع صعوبة أكبر في حصول كل من اللاجئين والمصريين على خدمات الرعاية الصحية.
التعليم: يواجه نظام التعليم في مصر تحديات متزايدة مع التحاق أعداد كبيرة من الأطفال اللاجئين إلى المدارس المحلية، ما أدى إلى زيادة الضغط على الموارد التعليمية والمساحات المتاحة، حيث أصبحت الفصول الدراسية، التي كانت تعاني من الازدحام بالفعل، أكثر تكدسا. وقد افضى هذا الوضع إلى تراجع جودة التعليم وأثقل كاهل المعلمين بمهام إضافية. علاوة على ذلك، تزداد الحاجة إلى موارد مثل الكتب المدرسية والمواد التعليمية، مما يزيد من الضغوط على موازنة التعليم المحدودة.
التأثير الاقتصادي على الشركات المحلية: يسعى العديد من اللاجئين إلى إنشاء مشروعات صغيرة أو الانخراط في العمالة غير الرسمية لتأمين معيشتهم، مما يترك أثرًا كبيرا على الاقتصاد المحلي. ورغم أن هذا قد يسهم إيجابيًا في بعض الأحيان في تحفيز النشاط الاقتصادي، إلا أنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى زيادة المنافسة على الوظائف والموارد. هذه المنافسة قد تؤدي إلى تراجع الأجور وتفاقم التوترات بين اللاجئين والعمال المحليين.
التوترات المجتمعية: تؤدي الضغوط الاقتصادية والتنافس على الموارد إلى زيادة التوترات بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة. وفى هذا السياق، تساهم تحديات الاندماج الاجتماعي والاختلافات الثقافية في زيادة هذه التوترات، مما قد يسفر عن نزاعات تؤثر على التماسك الاجتماعي. كما أن المجتمعات المحلية تشعر بأن الموارد تُحوَّل بعيدًا عنهم لدعم اللاجئين، مما يولد الاستياء ويعزز عدم الاستقرار الاجتماعي.
عدم الاستقرار السياسي في ليبيا: تشهد ليبيا حالة من عدم الاستقرار السياسي المستمر الذي أسهم في تعطيل التجارة الإقليمية وزيادة عمليات تهريب السلع والأسلحة عبر الحدود، وهو ما يلقي بظلاله على الوضع الأمني والاستقرار الاقتصادي في مصر. كانت ليبيا في الماضي شريكاً تجارياً مهماً لمصر ومصدرًا كبيرًا للاستثمار وفرص العمل. ومع ذلك، أدت حالة عد الاستقرار في ليبيا إلى تراجع التعاون التجاري والاقتصادي، مما انعكس سلباً على الاقتصاد المصري.
اضطراب التجارة الإقليمية: كانت ليبيا شريكًا تجاريًا رئيسيًا لمصر عبر التاريخ، وقد أدت حالة عدم الاستقرار في ليبيا إلى إغلاق المعابر الحدودية والموانئ، مما أعاق تدفق السلع والبضائع، ففي الفترة ما بين عامي 2018-2010، تراجعت صادرات مصر إلى ليبيا بشكل حاد، مما أثر على الشركات المصرية التي كانت تعتمد على السوق الليبي.
التهريب والقضايا الأمنية: أدى انهيار النظام داخل ليبيا إلى تصاعد نشاط التهريب على الحدود الليبية المصرية، مما يشكل تهديدات أمنية مباشرة لمصر. وبالتالي، فقد يؤدي تدفق الأسلحة والسلع المهربة إلى زعزعة استقرار الاقتصاد المحلى وخلق تحديات كبيرة أمام أجهزة إنفاذ القانون، مما يزيد الضغط على قوات الأمن المصرية ويثقل كاهل الحكومة بعبء مالي إضافي. كما أن الموارد الإضافية المطلوبة لمكافحة التهريب وتأمين الحدود تؤدي إلى تحويل الأموال من قطاعات حيوية أخرى، مما يقوض الاستقرار الاقتصادي العام.
التراجع في الاستثمار والتعاون الاقتصادي: أدت حالة عدم الاستقرار السياسي في ليبيا إلى انخفاض في مستوى الاستثمار والتعاون الاقتصادي بين البلدين. كانت ليبيا في السابق مصدرًا هامًا للاستثمار في مصر، خاصة في قطاعات مثل البناء والطاقة. ومع ذلك أدى الوضع غير المستقر في ليبيا إلى تعليق أو إلغاء العديد من المشاريع والاستثمارات المشتركة. على سبيل المثال، تم تأجيل استثمارات ليبية كبيرة في مجال العقارات والبنية التحتية المصرية بسبب البيئة الاقتصادية غير المستقرة. بالإضافة الى ذلك، يؤثر هذا التراجع في الاستثمار الأجنبي المباشر على آفاق النمو الاقتصادي في مصر ويحد بشكل جوهري من فرص خلق الوظائف. ووفقًا لبيانات البنك المركزي المصري، تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من ليبيا بأكثر من 75% بين عامي 2010 -2020 بسبب تدهور الأوضاع الناجمة عن الحرب الأهلية هناك. وبشكل خاص تأثرت قطاعات البناء والتصنيع في مصر التي كانت تستفيد بشكل كبير من رؤوس الأموال الليبية بشكل خاص.
الحرب الروسية الأوكرانية: خلفت الحرب في أوكرانيا تداعيات عالمية، وخاصةً على أسعار الغذاء. وباعتبارها مستوردًا رئيسيًا للقمح، واجهت مصر ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الحبوب بسبب اضطرابات سلاسل التوريد العالمية. في عام 2023، استوردت مصر حوالي 70% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا. وفى سياق متصل، أدى النزاع في ليبيا إلى زيادة أسعار الخبز بنسبة 20%، مما ساهم في ارتفاع التضخم الغذائي وزيادة المصاعب الاقتصادية للمصريين. المصاعب الاقتصادية والتضخم: لم يؤثر ارتفاع أسعار القمح على تكاليف الغذاء فحسب، بل ساهم أيضًا في ارتفاع معدلات التضخم العام في مصر، وزيادة أسعار الغذاء بوتيرة أسرع من باقي السلع والخدمات. أفاد تقرير “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” المصري بأن التضخم الغذائي بلغ نحو 30% في عام 2024، مما يعكس بوضوح تأثير ارتفاع أسعار القمح على السلع الاستهلاكية. وقد أدى تفاقم الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن التضخم إلى تراجع القوة الشرائية للأسر المصرية. وبالنسبة للعديد من المواطنين، أدى ارتفاع أسعار الغذاء إلى تراجع مستوى المعيشة وتفاقم المعاناة الاقتصادية. وتزداد تلك المصاعب بين الأسر محدودة الدخل، التي تنفق نسبة أكبر من دخلها على الاحتياجات الأساسية.
– استجابة الحكومة والأثر المالي: عملت الحكومة المصرية على مواجهة الأزمة الاقتصادية من خلال اتخاذ تدابير مختلفة للتخفيف من أثار ارتفاع أسعار السلع الغذائية. وشملت هذه التدابير دعم المواد الغذائية الأساسية، والعمل على تنويع مصادر استيراد القمح، وإدارة الاحتياطيات الاستراتيجية. إلا أن هذه التدابير شكلت أعباءً مالية إضافية على موازنة الحكومة، حيث يتم تحويل الموارد بعيداً عن قطاعات حيوية مثل تطوير البنية التحتية والبرامج الاجتماعية. وبشكل متزامن، أدى ارتفاع تكاليف استيراد القمح إلى زيادة الضغوط المالية على الحكومة، وتسبب في تصاعد الإنفاق على برامج الدعم، مما يؤثر على الاستقرار المالي وقد يؤدي إلى مزيد من الاقتراض.
توقعات القاهرة للدعم الاقتصادي الأمريكي لمصر كحليف استراتيجي للولايات المتحدة
مبادلة الديون الثنائية والإعفاء عنها: يمكن للولايات المتحدة أن تدعم مصر من خلال مبادلة الديون الثنائية ومبادرات الإعفاء من الديون. اعتبارًا من عام 2024، بلغ الدين الخارجي لمصر حوالي 152.9 مليار دولار. وقد أدى ارتفاع تكلفة خدمة الدين الى إثقال كاهل الاقتصاد المصري وتقييد فرص الاستثمار في مشاريع البنية التحتية والخدمات الاجتماعية الأساسية. وقد تسهم عملية معاوضة الديون، عبر تحويل الدين إلى استثمارات في مشاريع تنموية محلية، في تخفيف الأعباء الاقتصادية بشكل فوري ودعم أهداف التنمية المستدامة.
المبادرة متعددة الأطراف لتخفيف أعباء الديون والمؤسسات المالية الدولية: غالباً ما ينطوي تخفيف عبء الديون المتعددة الأطراف على منظمات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وتتأثر هذه المؤسسات بشكل كبير بالسياسات الأمريكية ومن ثم، يمكن للولايات المتحدة استخدام نفوذها على هذه المؤسسات المالية الدولية للاستفادة من مبادلة الديون والتعليق المؤقت لمصروفات خدمة الدين المصري، مما سيخفف العبء المالي على الموازنة.
– تيسير الاتفاقات الشاملة: من خلال نفوذها الدبلوماسي، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دورًا محورياً في التوسط في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي الكبير. وينبغي أن يكون الهدف هو إبرام اتفاق ملزم يضمن التوزيع العادل للمياه ويعالج مخاوف الدول الثلاثة. وقد تتضمن هذه الاتفاقية أحكاماً بالتدفق السنوي للمياه، بما يضمن حداً أدنى من التدفق المائي لمصر، ربما من خلال إطار عمل يعوض أي نقص قد يحدث في إمدادات المياه. كما يمكن أن يتضمن وضع جدول زمني لملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي وأن يأخذ في الاعتبار الاثر علي دول المصب، مع تعديلات موسمية لتقليل الانقطاعات في تدفق المياه.
الدعم التقني والمالي: يمكن للولايات المتحدة توفير الدعم التقني لدعم مشاركة البيانات ورصد تأثير السد الإثيوبي على مصر. ويشمل ذلك مراقبة الأقمار الصناعية وتحليل البيانات الهيدرومترولوجية لضمان الشفافية والامتثال للاتفاق.
الحوافز المالية: يجب تقديم الدعم المالي أو الحوافز المالية لتشجيع الامتثال للإطار المتفق عليه لتقاسم المياه.
يمنح الموقع الاستراتيجي لمصر مكانة تجعلها في قلب النزاعات الإقليمية؛ كما أن الاضطرابات في التجارة والضغوط الناجمة عن استضافة اللاجئين تُبرز التحديات الاقتصادية المتعددة التي تواجهها مصروبالمثل، فاقمت الصراعات الإقليمية من هذه التحديات من خلال الضغط على الخدمات العامة وتضخيم الأسعار.
وباعتبارها حليفاً استراتيجياً، يمكن للولايات المتحدة أن تلعب دوراً حاسماً في التخفيف من هذه الضغوط من خلال عملية مبادلة الديون الثنائية، ومبادرات أعفاء الديون، والتوسط لإبرام اتفاقات شاملة. وحيث أن التمويل المقدم من صندوق النقد الدولي لمصر يأتي على شكل قروض، إلا أن هذه الالتزامات المالية الجديدة ستفرض في نهاية المطاف المزيد من الضغوط على اقتصاد البلاد. ومن ثم، يمكن للولايات المتحدة أن تساعد في استقرار الاقتصاد المصري وتعزيز التنمية المستدامة من خلال استثمار نفوذها على المؤسسات المالية الدولية، والعمل على مبادلة الديون وإعفاءها وحيث ان الشراكة المصرية الامريكية حيوية ويمكن ان تدعم الاقتصاد المصري وضمان الاستقرار الإقليمي في مواجهة الصراعات والأزمات المستمرة.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا