لا يمكن لدولة تزرع الكراهية في قلوب جيرانها كل يوم أن تطلب منهم الأمن والأمان، وأن تعيش معهم في سلام، بينما هي تتربص بهم لتحقيق التوسع الإقليمي الذي تحلم به، كيف يأمن هؤلاء الجيران مكرها وهم يرونها ترتكب المجازر وتنتهك الحرمات على مدار الساعة؟ قد تحملهم الظروف على توقيع اتفاقات ومعاهدات معها، لكن هذه الاتفاقات توقف الحروب مؤقتا ولا تقيم السلام، فقرار الحرب تصنعه الحكومات، أما السلام والأمن والتطبيع فتصنعه الشعوب.
الدول التي تريد الأمن والسلام مع جيرانها يجب عليها ابتداء أن تعترف بحق هؤلاء الجيران المتساوي معها في العيش الكريم، وحقهم في تقرير المصير بحرية واستقلالية، وإسرائيل منذ نشأتها لا تفعل شيئا من ذلك، وتريد أن تهنأ بالأمن والسلام وحدها، بينما يعاني الجيران من شرورها وويلاتها.
إسرائيل لم تكن أبدا دولة سلام، ولم تكف يوما عن العدوان، وقد اكتوى بنارها الشعب الفلسطيني حتى من قبل إعلان دولتها، كما اكتوى بنارها كل الشعوب المجاورة، أجيال وراء أجيال، فهي بحكم تكوينها تعتمد على التفوق العسكري، ولا تتوقف عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري والاغتيالات السياسية.
والسلام في المفهوم الإسرائيلي هو الخضوع التام لقدراتها العسكرية، وهيمنتها السياسية، والاستسلام لمشروعها الاستعماري التوسعي، المدعوم من الغرب، ومن المستحيل على شخص ذاق مرارة القتل والتشريد والتهجير والخوف والجوع والبرد أن يمنح الأمن والسلام لمن سبب له هذه العذابات، سيكون بداخله دائما حاجز نفسي وأخلاقي يحول دون ذلك، بل يدفعه دفعا إلى الثأر ممن سرق بيته وقتل أسرته ودمر مدينته، وهذا ما حدث ويحدث للشعب الفلسطيني الذي ارتكبت إسرائيل في حقه كل صنوف الإجرام.
من هنا نستطيع أن نفهم أسباب طوفان الأقصى، الذي جاء بمثابة انتفاضة ضد القمع الإسرائيلي المستمر، فقد كانت غزة تعيش تحت حصار خانق ظالم يمنع عنها أدنى مقومات الحياة، وكانت الضفة الغربية تعاني من سرطان المستوطنات والجدار العازل، وسرقة منازل المواطنين الفلسطينيين ومنحها للمستوطنين الأجانب، القادمين من الشرق والغرب، وهدم أحياء فلسطينية بكاملها وضمها إلى أملاك الدولة العبرية لإقامة مستوطنات جديدة عليها، ناهيك عن الاعتداءات المتتالية على المسجد الأقصى، والتهديد الدائم بهدمه وإقامة هيكل سليمان مكانه.
إن معاناة الشعب الفلسطيني من القمع الإسرائيلي لم تكن خلال عام العدوان الهمجي على غزة، لكنها بدأت من قبل إعلان الدولة العبرية في 1948، واستمرت حتى بعد اتفاق أوسلو 1993 ، الذي كان قائما على أن تحرير (غزة وأريحا) سيكون مقدمة لتحرير الضفة وغزة بالكامل وإقامة الدولة الفلسطينية عليها بحدود 1967، وفق قرارات الأمم المتحدة التى ارتضاها الطرفان؛ حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفسطينية، لكن إسرائيل ظلت تماطل وتراوغ، ولم تسمح بخطوة واحدة للأمام في تطبيق الاتفاق، بل تراجعت خطوات للخلف، وتركت السلطة الفلسطينية في وضع بائس، مشلولة اليدين والقدمين، ومحاصرة في مقرها.
ووصل الأمر بحكومة نتنياهو إلى الإعلان عن خطة ضم الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، بالإضافة طبعا إلى تدمير قطاع غزة، واقتطاع أجزاء من لبنان وسوريا، متخيلة أنها بذلك تصنع مناطق عازلة تحمي دولة إسرائيل وتوفر لها الأمن والسلام، وتحقق لها العلو الكبير الذي تحدث عنه القرآن الكريم، بينما هي في الحقيقة تؤجج الكراهية في قلوب الشعوب، وتؤكد القناعة لدى الجميع بأنها دولة مارقة شريرة لا أمان لها، ولا ثقة في معاهداتها، ولا ثقة أيضا في الوساطة الأمريكية التي خذلت العرب والمسلمين عشرات المرات.
لقد تعلم الفلسطينيون الدرس، وأدركوا أهمية الاعتماد على أنفسهم في تحرير أرضهم ومقدساتهم، وتعلموا كيف يديرون المفاوضات مع مجرم الحرب نتنياهو وداعميه الأمريكيين، وهم اليوم يخوضون معركة الصمود في وجه المشروع الأمريكى الإسرائيلي لوقف إطلاق النارفي غزة، الذي يريده نتنياهو وقفا مؤقتا يسترد به أسراه، ثم يعود ثانية للإجهاز على ما تبقى من العمران وسكان الخيام.
لقد تلاعب نتنياهو بإدارة الرئيس الأمريكي بايدن في ملف الوساطة مرات ومرات، وخذله مرات ومرات، لكن بايدن لم يكن ليجرؤ على انتقاد نتنياهو وحكومته، ومع كل فشل كان يسارع إلى إلقاء اللوم على الجانب الفلسطيني، وهو في الحقيقة لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك، رغم أن دعمه غير المشروط لنتنياهو كان المساند له على استمرار العدوان وتجاهل الانتقادات المتصاعدة ضده، التي وصلت إلى محاكمته داخليا بتهم الفساد والرشوة، وطلبه للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته كمجرم حرب.
وللأسف سوف يزداد الأمر سوءا مع إدارة الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب، الذي يشترك مع نتنياهو في رؤية عنصرية متطرفة، تتجاهل أي حديث عن حقوق الشعب الفلسطيني، وترى ضرورة فرض السلام (الاستسلام) بقوة السلاح، والتوسع في الاستيطان وسياسة الضم، وتبني سياسات متشددة ضد فكرة الدولة الفلسطينية.
وليس هناك أدنى شك في أن رؤية ترامب المتطرفة، المتوافقة مع رؤية نتنياهو الأكثر تطرفا، ستجعل من المستحيل تحقيق السلام المستدام في الشرق الأوسط، وبالنظر إلى سوابق الأعمال فإن أي اتفاق قد يُبرم بين الأطراف المعنية في ظل إدارة ترامب لن يكون متوازناً، وسيحمل نتائج مؤلمة للفلسطينيين، لكن الشعب الفلسطيني في كل الأحوال لن يموت، قد يغفو وتخبو جذوته، لكنه سرعان ما ينتفض ليقوم صلبا قويا قادرا على المواجهة.