بعد أيام قلائل من انطلاق طوفان الأقصى ألقى رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو كلمة حماسية لطمأنة الإسرائيليين الذين يهرولون للهجرة العكسية، أكد فيها أن حكومته ستقضي على أعدائها وستوفر الأمن الكامل لليهود، وقال موجها كلامه للإسرائيليين: “سنحقق نبوءة إشعياء، ولن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببا في تكريم شعبكم، سنقاتل معا ونحقق النصر”.
ولم يهتم أحد من العرب في ذلك الوقت بالاستفسار عما يقصده نتنياهو بالإشارة إلى نبوءة إشعياء، حتى تنبهنا الأسبوع الماضي إلى خطورة ما تحمله هذه النبوءة من إشارات مبتذلة حول أطماع إسرائيل التوسعية على حساب جيرانها، ورؤيتها الاستعلائية لهؤلاء الجيران، وذلك بعدما كشفت الخرائط التلمودية التي نشرها موقع (إسرائيل بالعربي) على منصة إكس أن نتنياهو عندما استحضر (نبوءة إشعياء) لم يكن يقصد اجتثاث حماس وأخواتها وقضم غزة والضفة فحسب، وإنما أبعد من ذلك وأوسع، وهو ما ترجمه بنفسه خلال الأشهر الماضية في كلامه المكرر عن تغيير الشرق الأوسط استراتيجيا وسياسيا وجغرافيا.
وكان موقع (إسرائيل بالعربي)، وهو موقع إسرائيلي رسمي باللغة العربية، قد نشر خرائط لأرض إسرائيل التوراتية، تضم فلسطين التاريخية، بما فيها الضفة الغربية المحتلة، وأجزاء من الأردن وسوريا ولبنان، وكتب في النص المرافق للخريطة أن “هذه هي أرض إسرائيل التي كانت مقسمة بين مملكتي إسرائيل ويهوذا منذ ثلاثة آلاف سنة، وقد عانت من صراعات سياسية بسبب هذا الانقسام، وتركت تأثيراتها السلبية على شعب إسرائيل عبر التاريخ، لكن الشعب اليهودي في الشتات ظل يتطلع إلى نهضة قواه وقدراته وإعادة بناء دولته التي أعلن عنها عام 1948، لتصبح الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”.
وقد تزامن نشر هذه الخرائط مع تصريحات إسرائيلية رسمية تؤكد عدم الالتزام بالموعد المحدد للانسحاب من لبنان، وانتهاز فترة حكم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب لضم الضفة الغربية بالكامل، ورفض أي كلام عن إقامة دولة فلسطينية، والتخطيط لمد التوغل العسكري في الأراضي السورية بعمق 15 كيلومترا إضافيا لأسباب أمنية، لذلك التقطت أطراف عربية المغزى من وراء نشر هذه الخرائط اليوم، وأدركت حقيقة الإشارة التي أرادت إسرائيل أن تبعث بها، ومن ثم جاء ردها غاضبا، يحمل “إدانة شديدة للتطرف اليميني والهوس الديني الذي يسيطر على الحكومة الإسرائيلية ورموزها، ويدفعها إلى استدعاء خرافات تاريخية وترويجها باعتبارها حقائق”، وقالت جامعة الدول العربية إن “هذه الخرائط ليست سوى ترجمة لنوايا شديدة التطرف تضمرها حكومة تمثل خطرا حقيقيا على استقرار المنطقة، وعلى التعايش السلمي بين شعوبها”.
وذكر تقرير نشره موقع شبكة (بي بي سي) البريطانية عبر الإنترنت أن هناك مخاوف حقيقية من أن يكون استدعاء الخرائط التلمودية ونشرها الآن قد جاء في إطار تنفيذ نتنياهو للوصية التوراتية المعروفة بـ (نبوءة إشعياء) التي أشار إليها في أكتوبر 2023، لأن إسرائيل تعتقد أن الوقت أصبح مناسبا لضم الضفة الغربية واحتلال أجزاء من سوريا والأردن ولبنان وصولا إلى العراق، وقد يفرض الأمر على هذه البلدان الدخول في حرب مع إسرائيل بعد فترة وجيزة لطردها من الأراضي التي احتلتها، والتي ستحتلها، مما يفاقم الصراع في الشرق الأوسط.
وجدير بالذكر أن إشعياء صاحب النبوءة المشار إليها يعده اليهود أحد أعظم أنبيائهم، وإن لم يرد له ذكر في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ويقال إنه عاش قرابة 80 عاما وامتدت رسالته لما يزيد على 60 عاما، وإنه قتل بمنشار خشبي في زمن الملك (منشى)، وله سفر كامل باسمه في التوراة يعرف بـ (سفر إشعياء)، يتكون من 66 إصحاحا، كتب نصفه بنفسه وأكمله تلاميذه نقلا عنه، ويحتوي هذا السفر على عدة نبوءات، وليس نبوءة واحدة، وتضمنت هذه النبوءات جوانب دينية وسياسية وتاريخية، وتوبيخا لليهود بسبب ظلمهم وسكرهم وانعدام أخلاقهم وبذخهم وفساد قضائهم وتورطهم فى الرشاوى والانحراف، وكانت دمشق والسامرة وحماة وآشور ومصر من الدول التي ذكرت بسوء في نبوءاته الخبيثة.
لكن النبوءة التي قصدها نتنياهو في إشاراته المبتذلة كانت تلك التي يقول فيها إشعياء إن “الرب سيعود ويمد يده ثانية ليسترد البقية الباقية من شعبه ـ اليهود ـ ويجمع منفيي إسرائيل ومشتتي يهوذا من أطراف الأرض الأربعة، فيقضون على الفلسطينيين غربا، ويغزون أبناء المشرق معا، ويستولون على بلاد آدوم وموآب ويخضع لهم بنو عمون”.
وهكذا يتطلع نتنياهو بخياله إلى أن إسرائيل الحديثة سوف تحقق مالم تستطع ممالك اليهود القديمة (المزعومة) تحقيقه، وستفرض سيطرتها على المشرق العربي، وتخضع الأمم المجاورة لسلطانها، وهو لا يدري أنه بمثل هذه الإشارات المبتذلة يسهم في إيقاظ وعي هذه الأمم، وتوجيهها إلى الوجهة الصحيحة لتقف صفا واحدا، وتتصدي بكل قوة لهذه الأساطير التي تنفي نفيا قاطعا أكذوبة الحلول السلمية، وتؤكد صواب خيار المقاومة.
ومن عجيب الصدف أن ما يفعله نتنياهو في المشرق العربي يفعله ترامب مع جيران أمريكا، إذ وجه تهديدات صريحة بضم كندا وقناة بنما وجزيرة جرينلاند إلى الولايات المتحدة، وسبب بذلك إزعاجا كبيرا لحلفائه الأوروبيين الذين اتهموه ـ على خجل ـ بأنه يتصرف خارج القانون، وأيا كان الهدف من هذه التهديدات الخرقاء، التى لم تتطرق بعد إلى منطقتنا العربية، فإن رسالتها واضحة، فالرجل يعترف صراحة بأن القوة هي القانون، وأن من يمتلك القوة له الحق في أن يفعل ما يريد، ولا حق للضعفاء الذين يتعلقون بما يسمى القانون الدولي.
ويشاء ربك أن يرسل إليه وإلى قومه برسالة لعلها تكبح هذه الغطرسة المقيتة، فقد جاءهم إعصار فيه نار وسحب سامة، يدمر القصور ويشرد أصحابها، ويجعل من لوس أنجلوس وكاليفورنيا وفلوريدا صورة من غزة المظلومة، وسبحان من تعلو قوته فوق كل قوي.