إنها الدبلوماسية الرئاسية المصرية، والجهود المكثفة، والصمود، والإصرار على الموقف، الذي يتأتى من عقيدة راسخة، وإيمان عميق بالقضية الأم؛ إنها القاهرة وقائد مسيرتها الذي لم يكل، ولم يمل، ولم يتزحزح عن موقفه النبيل الذي شهد له القاصي والداني؛ فعبر المحافل والمنتديات والمؤتمرات واللقاءات لم تتغير مفردات الكلمات قيد أنملة، وهذا ما يثبت أن لمصر العظمى دورها السامي في السلم والسلام وتعزيز ماهية التعايش السلمي؛ حيث إن نزع فتيل الأزمات يقوم على مبدأ القوة وصاحبه يتحلى بالحكمة والفطنة والمقدرة على عقد حوارات جادة تأتي ثمارها وتحقق فلسفة السلام العادل والشامل.
قالت القاهرة كلمتها بفصاحة لسان مبين منذ اللحظة الأولى، واستمعت، واستوعبت، كل الوجدانيات إليها، وترجمتها المواقف الصامدة؛ فرغم محاولات المعتدي الآثمة التي استهدف بصورة معلنة تصفية القضية الأم، وحاولت إجبار الشعب الأعزل على الرحيل ليحدث التهجير المخطط له؛ حيث انتزع المغتصب كافة مقومات الحياة، بل ولم يترك للأمن والأمان قوس منزع؛ فقد قتل وانتهك ولم يترك جريمة إلا ارتكبها على تلك الأرض الصامدة بأهلها البواسل.
إنها القاهرة مركز الأفعال الناجزة التي لم ولن تتأخر عن أشقاء لهم حق الأخوة الكامل، ولم تتهاون في نيل مستحقهم، ولم تتوان عن تقديم كافة المساعدات التي تبقيهم صامدين قادرين على استكمال مسيرة التحرير وتكوين دولتهم بعدالة التشريعات ونصوص القوانين، ولم تدع ما يخفف آلام وجراح هذا الشعب الأبي الذي تمسك بعرضه وشرفه رغم آلة القتل التي لم تتوقف للحظة واحدة؛ فمصر لها أجندة واضحة معلنة للعالم بأسره؛ ألا وهي ضمانة عدالة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب المشروعة.
إن غزة وقضيتها العادلة في قلوب المصريين وقيادتها السياسية دون مراوغة؛ فلا أمن ولا أمان ولا استقرار بعيدًا عن حل الدولتين بناءً على حدود عام (1967)، للتمكن من إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ عاصمتها القدس الشرقية؛ فمصر العظمى تتمسك بالمعيار القيمي والأخلاقي والسياسي للحفاظ على سلامة الإنسانية والعيش تحت راية السلام، ولا تؤمن بسياسة العنف والقتل والتهجير؛ فالأجيال التي تحمل الكراهية لن تتوقف يومًا عن المطالبة بحقوقها حتى قيام الساعة.
إن استقرار المنطقة يعود بالثمرة على الجميع؛ فالصراع والنزاع المسلح لا يتمخض عنه إلا خسائر فادحة في المقدرات المادية والبشرية؛ فما رأيناه من التصعيد العسكري إلا فقد حياة الآلاف من الأبرياء؛ ومن ثم نقدر الجهود المبذولة من مصر وقطر والولايات المتحدة للوصول إلى اتفاق يستوجب وقف إطلاق النار في قطاع غزة؛ إذ يتضمن صفقة تبادل الأسرى مع الجانب الإسرائيلي، وعودة النازحين داخليا، وفتح معبر رفح لدخول المساعدات.
وعلينا أن نعي بأن مصر بمكانتها الاستراتيجية، وقوة موقفها، وصلابته، تجاه إيمانها الخالص بعدالة القضية الفلسطينية، وحقوق الشعب التاريخية الثابتة في الوجدان، قد قوض محاولات إسرائيل المتكررة تجاه تصفية القضية؛ حيث جموح الرغبة تجاه تعضيد الاستيطان، بتوظيف تعددية أنماط القمع والقهر، وفق استراتيجية معلنة تستهدف التفكيك والعزل والتهميش، وإيجاد حالةٍ من العوز تساعد في التهجير وتكريس التواجد الإسرائيلي بالمزيد من المستوطنات المؤمنة لقاطنيها والتوسع وفق مخطط تم الإفصاح عنه للعالم كله.
إن الرسائل التي وجهتها القاهرة بشكل مباشر في خطابات الرئيس حملت ما يجيش في صدور المصريين؛ حيث أكدت في جملتها على معان واضحة، ومفاهيم راسخة، ومواقف لا تراجع فيها، وفكرة تغور في الأعماق، وتترجمها الأذهان والممارسات؛ فقد أشارت إلى أن التهجير أبعد ما تكون عن طموحات أي ماكرٌ، أو كائدٌ، أو متآمرٌ، أو عميلٌ، أو خائنٌ للوطن؛ حيث الرفض التام والقاطع لفكرة التهجير القسري للفلسطينيين أصحاب الأرض والتاريخ، والذين تحملوا على مر عقود المتوالية مرارة العيش والتضييق والقتل وشتى الممارسات التي توصف بأنها ضد الإنسانية.
لقد أثبتت الأيام، والشهور، والسنين الصعبة، أن مصر فوق الجميع، وأن ترجيح لغة العقل، فلسفة ناجعة، وأنها بلد أمين راعية السلام، وليست من دعاة الحرب، وأنها دومًا تتمسك بالعدل وتنادي بتفعيل القوانين، ليسود الأمن والأمان والسلام، بينما هناك من كانوا يتشدقون بالحريات، ويشاهدون عمليات القتل الممنهج والترويع الإجرامي، والكوارث التي سببها القصف على الشعب الأعزل، ويقفون موقف المتفرج فكم أسقط هذا العدوان السافر أقنعةً مزيفةً؟
نثمن جهود قيادتنا السياسية الرشيدة، ونؤكد على مسلمة لا نمل، ولا نكل، من تكرارها، وهي أن الشعوب قاطبة قادرةٌ على إحداث التغيير بالصمود والعمل؛ لأنه العامل الرئيس في المعادلة على أرض الواقع؛ فبواسطته تشيع الإيجابية، ويعم التفاؤل نحو التغيير المنشود، وبدونه لا قضايا على الساحة يتم الدفاع عنها.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر