أول أمس الإثنين الثالث من فبراير 2025 مر على رحيل كوكب الشرق خمسون عاما, فنانة أسرت وسحرت العالم العربى بصوتها, وقوة حنجرتها, وموسيقاها العذبة, وفنها الراقى, وهى موهبة نادرة, ولم تتكرر, وستظل بصوتها القوى فى المقدمة, وكان عصرها الذهبى زمنا جميلا, أرست فيه قواعد الحب والمودة, لما كان لأغانيها معان شيقة وسمات فاضلة, وكنا – ومازلنا- نستمتع بكلماتها الرقيقة وألحانها العذبة.
كانت بين أم كلثوم ومسرح جامعة القاهرة مرحلة من البريق والشموخ, فقد كانت قاعة الإحتفالات الكبرى لجامعة القاهرة هى الوطن لصوتها الشجى لينطلق الى قمة النجومية, وهو المسرح الذى شهد أشهر وأهم تجلياتها الفنية, فأضاف كل منهما للآخر شموخاً وعظمة لدى الجمهور, وكانت باكورة اعمالها الغنائية على هذا المسرح:
اغنية يا شباب الثورة و قصيدة “اذكروه وخلدوه” في تكريم ذكرى طلعت حرب فى 20 فبراير ايضا عام 1957, ونشيد الجيش, ودليلى احتار, وأروح لمين فى 20اكتوبر 1959, وهجرتك, وقصة السد فى ٢٦ نوفمبر 1959, وحب ايه, واروح لمين, وهجرتك في ٢٧ فبراير 1961, وانت عمرى, وسيره الحب ٢٥ ابريل 1965, وأمل حياتى, وبعيد عنك ٢٤ فبراير 1966, وفكرونى, وفات الميعاد ٢ مارس 1967 وانت الحب, واراك عاصي الدمع ٢٥ مارس 1967 , والاطلال ٢٥ ابريل 1967 , والقلب يعشق كل جميل ٤ يناير 1973
سنة 1962 السيدة أم كلثوم اتحفتنا بأغنية استثنائية وهى “حسيبك للزمن” لماذا هى أغنية مميزة، لأنها فى هذه الأغنية وصلت لأعلى درجات النضج والقوة كإمرأة, وتخطت مرحلة “حيرت قلبي معاك” و “يا ظالمني” وقالت له بكل حزم: “حسيبك للزمن لا عتاب ولا شجن”، نقطة ومن أول السطر<ليس هذا فقط, فأنت “تشكي مش حسأل عليك، تبكي مش حرحم عينيك” وبكل ثقة ودلال قالت: “يوم من الأيام حتحتاج عطف قلبى يوم، يوم من الأيام حتتلهف لقربى <واستمرت فى شموخها: “الزمن حيدوقك فى البعد نارى، الزمن هو اللي حيخلص لى تارى”، لأنها شافت أن “كله حترده الليالى عليك بدالى”.
وتصل إلى المقطع الأقسى فى تاريخها, وتقوله بكل قوة وجبروت: بكرة تتمنانى أحاسبك أو ألومك أو أعاتبك، مش ححاسبك مش حعاتبك، لا ده انا كفاية إنى سيبتك للزمن”.
الأغنية الوطنية عند أم كلثوم كان لها دور مهم فى دعم الجيش المصرى والهلال الأحمر, والمجهود الحربى خاصة بعد عام 1967, وتحديدا بعد الهزيمة, فتميزت أم كلثوم بأداء دور وطنى كبير, فكانت تجوب كل الدول العربية, والعالم لتجمع كل مايمكن أن تجمعه من أموال, وتتبرع بها للمجهود الحربى, فهى أول الفنانين الذين بادروا بهذا العمل, وهذا الدور الوطنى الذى كان بمثابة طاقة نور, تضىء العتمة, التى كان يعيشها المصريون من مرارة الانكسار, والهزيمة الغادرة, ولكن كان لأم كلثوم رأى آخر, وهو أنها لن تستسلم, وسوف تحارب بسلاحها, الذى تملكه, وهو صوتها, ولعل هذا الموقف جعل شعب مصر كله يتماسك, ويصمد, ويقوم , وينهض, ولايستسلم أسوة بمحبوبته كوكب الشرق حتى بلغ رصيدها الغنائى الوطنى مالايقل عن 60 أغنية كان أشهرها فى الخمسينات والستينيات حتى بعد نصر أكتوبر, ومن أشهر روائعها الوطنية” على باب مصر تدق الأكف”, و” مصر التى فى خاطرى”, و”والله زمان ياسلاحى”, و”مصر تتحدث عن نفسها”, و”طوف وشوف”, و”راجعين بقوة السلاح”, و “ثوار..ألخ, وموسيقى أكبر الملحنين:رياض السنباطى وكمال الطويل, وغيرهما.
لكل شخص تاريخ ميلاد وحيد, لكن أم كلثوم التى ولدت فى يوم 31 ديسمبر من عام 1898 , تولد كل يوم لأنها سيدة الولادات المتعددة, تولد مع كل قصة حب ومع كل نغمة أثير وفى كل موعد غرام, ولاتخلو مدينة عربية من مقهى يحمل إسمها, ومن شارع يتوج حضورها بأسماء أغنياتها, فهى “كوكب الشرق”, لكن حضورها فى بغداد كان له سمة مختلفة, فقد زارت العاصمة العراقية فى عام 1932 بعد أن ذاعت شهرتها وجاءتها مرة أخرى وأخيرة فى 1946, وأسرت القلوب هناك, فلا صوت فى الشارع يعلو فوق صوتها, ومن يطالع رواية “النبيذة” للروائية العراقية أنعام كجه جى سيجد هذا الأثر فى نفوس أبطالها, أما السائر فى شارع الرشيد بالقرب من ساحة الميدان, فسيسمع صوتها مسيطرا على صخب الشارع الأهم, فقد غنت فى المقهى الذى يحمل إسمها فى المرة الأولى, وأصر صاحبه السيد عبد المعين الموصلى على أن يخلد بإسمها, ثم امتد الصوت لمقهى آخر بعد عشرة أمتار من المقهى الأول يحمل إسم”الأسطورة” أسسه تحسين المياح الذى امتلك المقهى الأول لسنوات, ثم باعه, وعاد من جديد, وأسس المقهى الثانى لأجل صوتها الذى يجمع الناس, ويسمو فوق كل شىء, كأنما أراد المياح أن يقول:”أنا اللى أخلصت فى ودى وفضلت طول العمر أمين”.
ونحن نحتفل بالذكرى الخمسين لرحيل سيدة الغناء العربى أم كلثوم فى الثالث من فبراير عام 1975 لن ننسى هذه الفنانة الموهوبة الفلاحة المصرية , وهى من الطراز الذى صنع نفسه وصنع تاريخنا معه بما فى صوتها ماينسينا واقعنا ويأخذنا إلى عوالم أخرى بعيدة, ففى الخميس الأول من كل شهر كانت تتحول جميع مؤشرات اجهزة الراديو فى كل العواصم العربية إلى إذاعتى البرنامج العام وصوت العرب , حيث تسعدنا كوكب الشرق على اختلاف الأعمار والأجيال والكل يسمعون ويستمتعون, وكانت حفلاتها بمثابة العيد عند الوطن العربى بأسره, فقد كانت تغنى لثلاث وصلات كاملة حتى مطلع الفجر, ونحن ننصت بكل مشاعرنا لصوتها الشجى, وفى ذكرى وفاتها نتساءل: أين تسجيلها القرآنى الذى جمع بين روعة الأداء وسمو المعانى وحلو الكلام والهيبة فى تسجيل لكتاب الله تعالى أدته أم كلثوم أداء شرعيا مطابقا لأصول التلاوة فى فيلم “سلامة”؟ إن هذا التسجيل يعطى دروسا فى صحة التلاوة للكثيرين , فأين هو