من غرائب هذا الزمان الذي نعيشه راهناً هو إفراط “جماعة حسن الساعاتي البنَّاء” في استهلاك اصطلاح “الثورة” بالطريقة المريبة لكل صاحب عقل متفكر. إذ لا يمكن أن تقبل من هذه الجماعة هو أن تكون ثورية؛ بالنظر إلى الأدبيات التي اعتمد عليها تأسيسها بيد ما يُسمى مؤسسها الأول.
وهذا الأمر يقتضى معرفة الأرضية الفكرانية البنيوية المضادة لفكرة الثورة؛ والحاكمة لتلك الجماعة المتأخونة؛ وكشفاً للتهافت ومنهج التقية التي تستخدمها سياسوياً ينبغي العودة إلى أصولياتها النظرية؛ لتكتشف ما يلي:
** الجماعة المتأخونة تستهدف في مشروعها التمكيني إعادة ما تسمى “دولة الخلافة الإسلاموية”؛ والتي سيحكمها “الإمام”؛ لذلك وصفت مؤسسها الأول “حسن البناء” بـ “الإمام”؛ وبمقتله بيد عناصر الجماعة نفسها استخرجت لقب “المرشد” توصيفاً لمن يدير شؤونها لاحقاً؛ لأنه لا إمام لهذه الجماعة سوى “حسن البناء” فقط؛ وقد كان تنظيمياً يمثل المُعادل الموضوعي للنبي السياسوي برسائل تعاليمه!!
** “دولة الخلافة الإسلاموية” تشكلت بدءاً من “مجتمع المدينة”؛ وتمددت خلال مرحلة العصور الوسيطة تاريخانياً إلى مساحة شاسعة من العالم؛ وقد كان نسق الإنتاج القائم خلال تلك المراحل إقطاعياً وتجارياً؛ لذلك حكم دولة الخلافة فقه “تسعة أعشار الرزق في التجارة”؛ وليس الاستزراع أو الاستصناع؛ فضلاً عما لوث سمعتها السياسوية بما سُمي “فقه اقتصادات الغزو والسبي”.
وتأتي الجماعة المتأخونة لتعيش في المتوهم الماضوي بتلبس ذلك النسق؛ وتتوهم إمكانية إعادة إحيائه سياسوياً؛ على الرغم من فقدانها لكل مقومات القوة العسكريتارية؛ أو فرض النموذج بقبضها على آليات التطور المماثل لتطور النوع الرأسمالوي الذي يجري تشكله الجديد في مرحلته العولمية.
ومن هنا ليست لدى هذه الجماعة المتأخونة أية مقومات لإعادة الصياغة السياسوية للواقع، بما يتناسب مع فعل الثورة الحقيقية؛ والتي تقوم بتغيير حياة الجماهير في الواقع الاقتصادوي؛ والنتيجة المنطقية لذلك أنها لا يمكن أن تنتج سوى الفوضى، والفوضى فقط. لذلك فادِّعاء الجماعة بأنها ثورية… باطل!!
** أنموذج بنية “دولة الخلافة المتوهمة” لهذه الجماعة لابد أن يكون بالضرورة عقدياً أي -“الوطن الإسلاموي الذي تميزه العقيدة، وتحكم وجوده”- وقمة سلطته أيضاً تكون عقدية بالوجوب؛ بمعنى أن السلطة بها تكون للخليفة، أو للإمام أو المرشد؛ وبالتالي يستدعى الأمر السؤال: ما هي إذن فعالية متوهم الصناديق، والانتخابات والأصوات، وتداول السلطة التي تدعي تلك الجماعة أنها تتبناها؟ ويترتب على ذلك أن عقيدة الثورة كأداة للتغيير لا وجود لها في تلك الدولة المتخيلة؛ لأن الإمام أو المرشد سيكون جاثماً على صدور الجماهير؛ شاءت ذلك أم أبت؛ وكله بأسانيد “شريعية”. وهذا ما يؤكد أن ادعاء تلك الجماعة بأنها ثورية… باطل!!
** إن نمط فعل الجماعة المتأخونة تاريخياً؛ ينفي عنها ” سمة الثورية ” التي تحاول الإيهام بها. ولدينا من الأحداث ما يثبت مكذوبيتها في هذا الادعاء:
- لقد ذكر “حسن الساعاتي البناء” في كتابه ” مذكرات الدعوة والداعية” أن جماعته هتفت بالبيعة في احتفال تنصيب الملك فاروق ملكاً على مصر، حين بلوغه الثامنة عشرة من عمره ورفع الوصاية عنه؛ وأن “جماعة الشبان المسلمين” رددت في احتفال التنصيب الشعارات الإسلاموية. وهذا نموذج تطبيقي للتقية؛ فالفعل الثوري يكون ضد هذه النمطية من الأنظمة السياسوية؛ فكيف تكون إذن جماعة ثورية؟!
ـ إن “حسن الساعاتي البناء” كثيراً ما دعا إلى تنصيب الملك فاروق خليفة للمسلمين؛ وكتب مقالاً في مجلة “الإخوان المسلمون” عنوانه: ”ملك يدعو وشعب يجيب – إلى جلالة الملك الصالح فاروق الأول من الإخوان المسلمين”. بل كتب ان الجماعة قررت ألا تباركه ملكا؛ ولكن أن تبايعه خليفة علي سنة الله ورسوله ”، وأطلقت عليه لقب “حامي المصحف “، و”حامي حمي الإسلام “، وهذا يمثل مسلكاً للتقية سعياً للتواري خلف “النظام الملكي” لتحقيق التمكين لاحقاً؛ فكيف تكون إذن جماعة ثورية؟!
ـ إن “حسن الساعاتي البناء” قام بحشد جماهير جماعته المتأخونة في مظاهرات مضادة لجماهير “حزب الوفد” والذي كان يُجسد صوت الحركة الوطنية المصرية؛ حين اختلف “مصطفى النحاس” مع “الملك فاروق”؛ وأخذت الجماعة المتأخونة تهتف: “الله مع الملك”؛ وتصفه بأنه “أمير المؤمنين”؛ نكاية في جماهير الوفد بهتافها: “الشعب مع النحاس”! أليس ذلك يعد دليلاً تاريخانياً يثبت أنها جماعة تمارس التقية السياسوية؛ لتتحكم في رقاب الجماهير إذا اعتمد الملك فاروق عليها؟ فكيف تكون إذن جماعة ثورية؟!
ـ إن الموقف الأولي الذي انطلق منه “حسن الساعاتي البنَّاء” مرتبط بالقاعدة الفقهية التي تُجرِّم ” الخروج على الحاكم “؛ لذلك كان يدعو “الملك فاروق” ليكون قائداً للأمة وخليفة للمسلمين؛ ولهذا لم يكن من الغرابة أن يُعلن المرشد العام “محمد مهدى عاكف”: “إن الجماعة توافق على ترشيح جمال مبارك رئيساً لمصر، بشروط أهمها أن يكون والده قد ترك السلطة أولاً. أي توافق على ” قاعدة توريث الحكم “! فكيف تكون إذن جماعة ثورية؟!
ـ وفي صورة أخرى أكروباتية من الفكر المتأخون القُطبي اللاحق والمتناسل بزعم الجهادية؛ ناقض يوسف القرضاوي “فقيه الفتنة المتأخونة” نزوع إمامه الأول ” حسن الساعاتي البناء ” بالدعوة لخروج الجماهير ضد مبارك والقذافي وبشار؛ معتبراً ذلك جهاداً؛ من دون الاهتمام بنتائج ما أحدثه فقهه المشوه، من دمار عمدي وفوضوي في سوريا وليبيا والعراق وكلها دول سقطت بالفوضى، وهو ما كان يتمناه ويسعى إليه في مصر “المحروسة”. لتكون تلك الجماعة داعية للفوضى وليس للثورة!
وفي كلتا الحالتين المتشابهتين سياسوياً لـ “حسن الساعاتي البناء” و”مهدي عاكف” ونقيضهما من “القرضاوي” قد تبدو الجماعة المتأخونة متناقضة في المواقف: غير أن الأمر غير ذلك، ولا تفسير له سوى أنه تطبيق لمسلكية كذب “فقه التقية” المتأصلة في العقل المتأخون؛ فلا “حسن الساعاتي البناء كان يحب الملك فاروق؛ ولا مهدي عاكف كان يحب جمال مبارك وأبيه؛ ولا القرضاوي كان يكره القذافي وبشار الأسد وصدام حسين؛ إذ زارهم في قصورهم والتقط معهم الصور؛ ولكنها غاية المراوغة والانتهازية و”التمسكن”!!
إن تفكيك خطاب وحركة الجماعة المتأخونة التي استثمرت في مجمل الخريطة العربية دورها التدميري منذ التأسيس؛ بالمساهمة في “إضاعة فلسطين” بالارتباك الذي أحدثته نتيجة أوامره بسحب الفدائيين المباغت مع دخول الجيوش العربية ساحة المواجهة مع الصهاينة المتمركزين في الجيتوات. فغضبت منه الجماعة آنذاك لأنها لم تكن تعرف ما يضمره.
وهذا ما يؤكد أن تلك الجماعة الساعاتية تتاجر وقتياً باصطلاح “الثورة” و”فلسطين” من أجل تحقيق مستهدفها المشبوه طيلة تاريخها!