في عالم يموج بالصراعات والتقلبات ، تبقى هناك دول لا تحتاج إلى الشعارات الرنانة أو التصريحات الصاخبة لتثبت وجودها بل تتحدث مواقفها قبل كلماتها. مصر واحدة من هذه الدول تسير بخطى واثقة لا تحيد عن مبادئها ولا تتأثر بالضغوط لأنها تستند إلى تاريخ عريق ورؤية ثابتة لا تتغير بتغير المصالح.
في أوقات الأزمات حين تتداخل الحسابات وتتصارع القوى، تظل مصر رقما صعبا في أي معادلة إقليمية أو دولية. فهي ليست دولة تبحث عن دور بل دولة يُعاد تشكيل المعادلات وفق مواقفها. تدرك متى تتحدث ومتى تراقب متى تتحرك ومتى تثبت ، لكنها لا تتنازل عن حقوقها ، ولا تقبل المساومة على أمنها القومي أو القضايا العادلة التي تؤمن بها.
موقف مصر من القضية الفلسطينية هو نموذج واضح لثباتها على المبدأ ، حيث لم يكن موقفها من التهجير القسري مجرد تصريح سياسي ، بل موقفا حاسما لا يقبل التأويل: لا للتهجير، لا للتفريط، لا للمزايدات. هذا ليس مجرد شعار مرحلي ، بل امتداد لنهج مصري أصيل يرفض المساومة على الحقوق مهما بلغت التحديات.
فالقضية الفلسطينية لم تكن يوما مجرد ملف دبلوماسي بالنسبة لمصر بل قضية تتشابك مع أمنها القومي وواجبها التاريخي تجاه أشقائها. لم تغير مصر موقفها رغم كل الضغوط والإغراءات، لأنها تؤمن أن المبادئ لا تُباع وأن القرار المصري لا يُصنع في العواصم الأخرى، بل يُرسم داخل حدودها وفق حسابات دقيقة تضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبار.
لكن مصر ليست دولة تندفع في قراراتها ولا تنجرف إلى الفوضى في لحظات التوتر. فهي تدرك أن دعمها للقضية الفلسطينية لا يعني اتخاذ خطوات غير محسوبة العواقب. هناك خيط رفيع بين الحزم في الموقف وبين الحفاظ على الاستقرار وهذا ما يميز السياسة المصرية التي تتحرك برؤية متأنية لا تستجيب للاستفزازات ، لكنها أيضا لا تسمح لأحد بفرض إرادته عليها.
لقد حاول البعض تفسير الموقف المصري وفق منطق المصالح الضيقة متناسين أن مصر ليست من يغير بوصلته وفق أهواء الآخرين. لقد تحملت المشاق ورفضت كل الضغوط ، لأنها تدرك أن الحفاظ على السيادة الوطنية والاستقلال في القرار ليس خيارا بل واجب لا يقبل المساومة.
على مدار العقود أثبتت مصر أن قوتها لا تكمن في التصريحات الحادة بل في ثبات مواقفها واتزان قراراتها. لم تكن يوما دولة تنساق وراء الموجات السياسية ، لكنها أيضا ليست دولة هامشية في الإقليم. من واشنطن إلى موسكو، ومن بروكسل إلى بكين، الجميع يدرك أن مصر ليست مجرد دولة في المنطقة، بل ركيزة أساسية في أي معادلة تخص الشرق الأوسط.
أما من يراهن على تغيير مواقفها أو يظن أنها قد تخضع للضغوط فهو لم يقرأ التاريخ جيدا مصر لم تكن يوما تابعا لأحد ولم تكن دولة تُؤمر فتطيع. هي التي ترسم مسارها، وتحدد خياراتها وفق ما يخدم مصالحها الوطنية فقط.
وفي النهاية مصر ليست بحاجة لمن يمنحها شهادة بثبات مواقفها ، فهي لم تسعَ يوما إلى إثبات شيء لأحد بل تتحرك وفق ما تراه صحيحا وفق ما يخدم أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. من أراد أن يفهم مصر فلينظر إلى أفعالها لا إلى ما يُقال عنها. فحين تتحدث المواقف يصبح الكلام مجرد صدى بلا تأثير وحين تتحرك مصر تتغير موازين القوى وتُعاد صياغة المعادلات.