أنا أبحث عن إيقاع الصورة ، وليس الصورة ، ولا يعنيني كثيرا الوقوف عند عقد المشابهات ، أو التقسيمات والتصورات التي يذهب إليها العقل بالطريقة المعتادة إزاءها ، أو حتى الصورة بمفهوما الحديث المتبادر، كما أن إيقاعها هنا لا يقصد به الإيقاع الصوتي الموسيقي فحسب ، بل يشمل التناغم على مستوى الحروف والكلمات ، ومعه إيقاع الصورة في داخلنا ، أي : ظلالها وحوارها ومشاكستها، وقدرتها على سكب الأنغام والتلاوين في الداخل ، أو توليد الدهشة والبهجة هناك في أغوارنا البعيدة .
ما أقصده هو ظلال الصورة وإيقاعها : رفرفتها، وزقزقتها، وحفيفها اللطيف الرهيف ، وانسيابها السلسبيل ، حلاوتها، وطلاوتها ، حضورها الساحر، بهاؤها ورواؤها حين تنسرب من العينين القارئتين ؛ لتنساب فيضًا وعافية في الوجدان ، وهي عذوبة تهمي ثم تسري، ثم تنداح في الحنايا والزوايا ، فيهمس الجمال ، وتورق الظلال ، وعند هذا الحد فإن النفس تخلو إلى نفسها ، تناجي ، وتتوسل ، وتتغزل ، في حضرة الشعر فحسب ، وليس في حضرة أي شيء من خارجه أو من خارجها ؛ إنها المتعة التي أحياها الآن ؛ والتي ستبقى معي على مدار تلك المعالجة الجمالية، لا تتغيا سواى ولا أتعشق سواها.
إنَّ الهدف الأول لديَّ هو القراءة الموازية التي تخاصر النص، وترقص معه ، فيزهر ويثمر بين أيدينا ؛ بينما تنساب الحروف هنا في محاولة ممتعة ؛ ليتوازى إبداعيا كل ما يتناسل عبر صفحاتي من الكلمات مع أخواتهن في ضمير القصائد القارة هناك ، ضمن ذلك المحصول الحضاري الذي تركه نزار الشاعر المجدد، والمتخطي ، والعاشق لفنه ، والمتصادم مع كل معطوب ومكرور، وقد ترك كلماته في فضاء الورق ، كما شدا بها في الأماسي والمحافل ، فعاشت معنا حية نابضة ،ليستمتع بها الناس – على تباين مستوياتهم، واختلاف ثقافاتهم وأذواقهم – وقد سبقهم من استشهدوا بها في أحاديثهم واجتماعياتهم ومواقفهم، أو تركوها على وسائد حبيباتهم ، وتأوهت بها قلوب العاشقين والعاشقات على مدى وسيع من الجغرافيا والتاريخ ، وتغنى بها المغنون وأمتعوا وأبدعوا ، كما لم يحدث مع شاعر عربي من قبل أو من بعد.
كل تلك الفرادة الشعرية دون أن يلتحم أحد بالصورة ، أو يغازلها بما يليق بها ولها ، أو يلج عوالمها المسحورة على نحو جديد فريد، لينطرح فيها فيسكنها وتسكنه ، ليذوق عُسَيلَتها، دون أن يبتغي من وراء ذلك شيئا أو أحدا ، سوى المتعة الروحية الخالصة ، وما أحاوله هنا هو ذلك التلاحم الوفيِّ السَّخيِّ ، الذي يريد أن يجعل الكتابة عن جمال البوح الشعري نوعا من جمال البوح الانطباعي ولا شيء غير.!