الحمد لله الذي بلغنا شهره الكريم ليجمعنا على الصيام والقيام، ويمنحنا فيه مزيدا من رحماته ومغفرته، ويقبل منا الدعوات والطاعات، ويجعلنا من عتقائه من النار ومن المقبولين، اللهم بحق هذا الشهر الفضيل انشر الأمن والأمان والسلام على وطننا وأمتنا وعالمنا، اللهم انصر الخير وأهله، والطف بعبادك المستضعفين المظلومين، واخذل الشر وأهله، وانتقم من الجبارين المستكبرين في الأرض، يا أرحم الراحمين، ويا نصير الحق، يا قوي يا متين.
سوف تستضيف القاهرة اليوم اجتماع القمة العربية لبحث إنقاذ غزة وتعميرها بعد الدمار الشامل الذي تعرضت له على يدي جيش الاحتلال الصهيوني، والذي لم يشهد له التاريخ مثيلا، حتى قيل إن غزة تعرضت لما يوازي 3 قنابل نووية خلال حرب الـ 15 شهرا الماضية، ومع ذلك فإن الدمار يظل أقل المخاطر التي تواجه غزة بعدما اتضحت المخططات الصهيونية الأمريكية لانتزاع هذا الجزء العزيز من الجسد الفلسطيني العربي الإسلامي.
لقد كشف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ما يعدونه لغزة ولغير غزة، فلم يعد الخطر مقصورا على الأرض الفلسطينية التي تعمل إسرائيل على قضمها قطعة قطعة، لكن هذا الخطر يتمدد ويتسع ليصل إلى دول الجوار، وما أبعد من دول الجوار، وهو ما يؤكد أن المخطط ماض إلى تنفيذ حلم (إسرائيل الكبرى)، ويستهدف الوطن العربي بأسره، من المحيط إلى الخليج.
قد تختلف الوسائل والأدوات والأهداف المرحلية، لكن البلدان العربية جميعا صارت في مرمى النيران، ولن تقنع إسرائيل بما سرقت من أراض وقتلت من بشر، وليست في حاجة إلى سبب مباشر ـ مثل طوفان الأقصى ـ لتفعل ما تريد، فهي قادرة دائما على اختراع هذا السبب وترويجه، على نحو ما حدث مؤخرا في عدوانها على سوريا، دون أن يكون لدى سوريا ما يشكل تهديدا عليها، وبنيامين نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل لايخفى أطماعه، ولا يتجمل حين يعرضها، وإنما يقول في صراحة وقحة إنه “يغير الشرق الأوسط استراتيجيا بما يحفظ لإسرائيل قدرتها على التفوق والسيطرة”.
ولن ينجو بلد عربي من هذه الأطماع إلا بتحرك دفاعي عربي مشترك، فإسرائيل تتربص بالجميع، وتنتظر الفرصة السانحة لتضرب ضربتها هنا وهناك، مدفوعة بغرور القوة، وبالدعم الأمريكي الأوروبي، دون أن تقيم وزنا للقرارات والقوانين والأعراف الدولية، ومبرراتها جاهزة سلفا، ومن السهل أن تدعي في كل عدوان أنها تسعى إلى تعزيز أمنها الإستراتيجي فى المنطقة من خلال تدخلها العسكري واحتلالها للأرض، لكنها في الواقع تعمل على استغلال التغيرات السياسية والعسكرية في دول الجوار لتنفيذ خطط التمدد والتوسع ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
لم تقنع إسرائيل باحتلال هضبة الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية، بعد أن استقر لها هذا الاحتلال، لكنها بدون مقدمات، وبدون أن يتعرض لها النظام الجديد في سوريا ولو بالإشارة، استغلت سقوط بشار الأسد في ديسمبر الماضي لتضرب قواعد الجيش السورى وتدمر قدراته العسكرية بالكامل، وتدفع بقواتها لاحتلال جبل الشيخ وجنوب دمشق، وتعلن وضع الطائفة الدرزية في سوريا تحت حمايتها، وفي الوقت ذاته تراوغ في تنفيذ انسحاب قواتها من لبنان وفق اتفاق وقف إطلاق النار، وتعلن بقاء وحدات عسكرية لها في خمس مناطق بالجنوب اللبناني.
ويكتمل المخطط الإسرائيلي بتسريبات مقصودة عن ضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزة، واستئناف الأنشطة الاستيطانية فى المنطقتين مع تهجير أهلهما بالقوة العسكرية، ويضاف إلى ذلك تصويت الكنيست على مقترح حكومي بإنشاء (القدس الكبرى) من خلال سرقة الأحياء المجاورة للمدينة المقدسة ومصادرة الأملاك الفلسطينية فيها لتكون خالصة للمستوطنين.
وهكذا تتمدد إسرائيل رويدا رويدا، وتخلق أسبابا دائمة للتوتر والاضطراب، فالشعوب التى احتلت أرضها لن تستسلم، وإن سكتت اليوم فلن تسكت غدا، وحين تجد في نفسها القدرة على المقاومة وعلى الحرب سوف تنطلق لتحرير أرضها، فالاحتلال يقابله مقاومة وحروب، وساعتها ستعلو الأصوات الناعقة تتهم المقاومة بالإرهاب، دون أن تفكر في الإرهاب الإسرائيلي الذي سبق.
إنها نفس الدائرة التي صنعها الصهاينة من البداية، فمنذ مائة عام وإسرائيل تمارس الإرهاب علي الشعب الفلسطينيى بالقتل والتدمير، وتتسلل إلى الدول العربية، وتعيث فسادا في السياسة والدين والثقافة والاقتصاد والإعلام والانتخابات والوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، لكي تخلق فيها بيئات قلقة مضطربة تجعلها قابلة للتفكك والانهيار، حتى تجد لنفسها موطئ قدم وسط هذه الفوضى.
لذلك فإن القادة العرب حين يجتمعون اليوم لإنقاذ غزة فإنهم في الحقيقة ينقذون أوطانهم من مكر الصهاينة وأطماعهم المستقبلية، ويحافظون على الأمن القومي العربي الجماعي أمام دولة صغيرة مارقة، تريد أن تتغول على جيرانها، وتكون لها السيطرة على المنطقة، ولو نجحت اليوم في نزع سلاح غزة فسوف تطلب غدا نزع سلاح الدول المحيطة، واحدة تلو الأخرى، ولو نجحت في فرض الحصار على غزة من جديد فسوف يحملها الغرور إلى فرض الحصار في مرحلة تالية على لبنان وسوريا وغيرهما.
لذلك فإن القادة العرب وهم يبحثون اليوم قضية غزة إنما يبحثون في الواقع قضيتهم جميعا في مواجهة المخططات الإسرائيلية، وسيكون عليهم أن يخرجوا بموقف عربي موحد وقاطع، بأنه لا مساومة على غزة، أو على سوريا ولبنان، وأي عدوان على بلد عربي هو عدوان على العرب جميعا.
إسرائيل لا تريد السلام، ولا تلتزم يأية معاهدات، لكنها مع ذلك ليست بالقوة التي يصورها نتنياهو، وأضعف من أن تفرض إرادتها على جيرانها، وهي اليوم تعاني من انقسامات داخلية وهجرة عكسية تهدد وجودها، ولا تستطيع العيش بغير كفيل خارجي مثل ترامب، الذي يدعمها بعقيدة دينية راسخة، ولا يطلب منها مقابلا للمساعدات العسكرية الضخمة كما يفعل مع أوكرانيا، ومن ثم فإن كلمة القمة يمكن أن ترد للعرب هيبتهم، وتغيرالتوازنات القائمة، إذا جاءت حاسمة، مخلصة لوجه الله.