مثلما شهد العالم للمقاومة الفلسطينية بالبراعة في مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية وفي الأداء الإعلامي طوال شهور الحرب، يشهد لها اليوم بالبراعة وهي تدير أصعب مفاوضات مع العدو الإسرائيلي وكفيله الأمريكي، خصوصا بعد أن توقفت المفاوضات المباشرة التي جرت بين حماس وأمريكا، وعاد الرئيس ترامب إلى لغة التهديد والوعيد إذا لم تطلق المقاومة جميع الأسرى فورا، وهو تهديد دائم ومستمر، لكنه لم يكن أبدا لينال من صمود المقاومة وثباتها.
وبعد أن كانت المفاوضات المباشرة قد فتحت بابا للأمل في إيجاد حلول تتجاوز المواقف المتصلبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يريد أن يحقق بالمفاوضات ما لم يحققه بالحرب، لكن هذا الباب سرعان ما أغلق بضغط كثيف من إسرائيل التي خشيت أن يكون التواصل المباشر بين حماس والإدارة الأمريكية سبيلا لتقويض موقفها والاعتراف بشرعية حماس، وعادت أمريكا تطرح من جديد مبادرة منسجمة مع ما يطرحه نتنياهو، وتقدمها إملاءات واجبة النفاذ، وإلا فالبديل هو الجحيم والعواقب الوخيمة.
وبعد أن توافقت حماس مع أمريكا في المفاوضات المباشرة على إطلاق سراح الأسير الأمريكي إيدان ألكسندر وجثامين أربعة أسرى أمريكيين آخرين، جاء المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف بمقترح يطالب بإطلاق سراح خمسة أسرى أحياء بينهم ألكسندر وجثث 10 قتلى من الأسرى، مقابل الإفراج عن عدد من المعتقلين الفلسطينيين ووقف العمليات العسكرية لمدة تتراوح بين 42 و 50 يوما يتم خلالها التفاوض على إنهاء الحرب.
وصاحب المقترح تحذير شديد اللهجة وجهه ويتكوف إلى حماس، وحدد لها موعدا نهائيا للموافقة على إطلاق سراح الأسرى وتمديد الهدنة، مشيرا إلى أن “الولايات المتحدة ترى الآن أن المفاوضات المباشرة كانت خطأ، وأن إصرار حماس على وقف دائم لإطلاق النار غير عملي، وسنرد بكل قوة إذا انتهت المهلة دون الإفراج عن الأسرى”.
ومعروف أن هذه التهديدات لون من الحرب النفسية التي تستهدف كسر الروح المعنوية للمقاومة، وتدمير روح الصمود وفرض الهزيمة عليها، ودفعها إلى التراجع بعد أن سجلت هدفا سياسيا في المفاوضات المباشرة، وخطت خطوة كبيرة للأمام.
وكانت هذه المفاوضات قد بدأت في قطر خلال الأسبوع الأول من مارس الجاري، واستمرت أربع جولات، وشارك فيها المبعوث الأمريكي لشئون الرهائن آدم بولر وقادة بارزون من حماس برئاسة خليل الحية، واعتبرها المراقبون تحولا كبيرا في السياسة الأمريكية التقليدية التي تفضل الاعتماد على الوسيطين المعتمدين (مصر وقطر) في التعامل مع حماس، المصنفة أمريكيا كمنظمة إرهابية، وجاء هذا التحول في سياق معقد بعد أن وصلت المفاوضات بين حماس وإسرائيل حول المرحلة الثانية من اتفاق وقف الحرب إلى طريق مسدود.
وقد أعطى ترامب أمره بالاتجاه إلى المفاوضات المباشرة بعدما أكد له الواقع الميداني قدرة المقاومة على الصمود، وفشل أسرائيل في القضاء على حماس واسترداد الأسرى بالقوة، وبعدما تأكد من عدم رغبة نتنياهو في التوصل إلى صفقة تعيد باقي الأسرى خوفا على حكومته، وتناولت المفاوضات الإفراج عن الأسير الأمريكي الحي إيدان ألكسندر وأربعة آخرين موتى، وتطرقت إلى ما يمكن التوصل إليه في نهاية المطاف، وأبدت حماس استعدادا لهدنة طويلة تلتزم فيها بالتنازل عن إدارة غزة وعدم تعرض إسرائيل للخطر مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع وإعادة الإعمار وفتح المعابر للمساعدات الإنسانية بشكل دائم.
لكن إسرائيل لم تقف صامتة أمام هذا التواصل الأمريكي المباشر مع حماس، خوفا من أن تصل المفاوضات إلى ما وصلت إليه المفاوضات الأمريكية المباشرة مع حركة (طالبان) الأفغانية، التي كانت هي الأخرى مصنفة أمريكيا كمنظمة إرهابية ثم اعترفت بها أمريكا في نهاية المطاف، وشنت حكومة نتنياهو حملة انتقادات واسعة على بولر، الذي خالف المعتاد ورد على الانتقادات قائلا: “إن الولايات المتحدة ليست وكيلا لتل أبيب، ولديها معايير محددة تلتزم بها”.
وبسبب هذا التصريح، وأيضا بسبب وصفه لمفاوضي حماس بأنهم “لطفاء ودودون للغاية وليسوا شياطين بقرون”، اشتعلت الأوساط السياسية والإعلامية في إسرائيل وأمريكا، وتم إعفاء بولر من متابعة ملف الأسرى، رغم أنه يهودي صهيوني لعب دورا كبيرا في هندسة اتفاقات التطبيع المعروفة ب (اتفاقات إبراهام)، لكنه على كل حال كان قد ألقى حجرا في المياه الراكدة، وأعطى زخما كبيرا للضغط الذي تمارسه عائلات الأسرى وداعميهم من أجل إطلاق سراح ذويهم، ولأولئك الذين سئموا الحرب ويرون أن على ترامب، وليس نتنياهو، أن يفعل شيئا ما لإيقافها.
ورغم أن الانتقادات الإسرائيلية لم تطل ترامب شخصيا إلا أنه حرص على الظهور كمن يعرف مصلحة إسرائيل أكثر منها، وأن عليه اتخاذ قرارات تصب في صالحها وإن أحدثت توترات مع قادتها، مثلما يفعل مع أوكرانيا، لكنه في الحقيقة، وطبقا لما ذكرته مصادر مقربة كان يريد إنهاء الحرب حتى يتسنى له توسيع اتفاقات إبراهام، خصوصا مع السعودية، والحصول على أموال واستثمارات من دول المنطقة، والتوقف عن إنفاق المزيد من الأموال على الحروب.
وفي حين أشادت مصر وقطر بالمفاوضات على أمل أن يسمع الأمريكيون من حماس مباشرة ما لا يريد لهم نتنياهو أن يسمعوه، وأن تفتح الباب أمام حل دائم، فإن السلطة الفلسطينية أبدت انزعاجا شديدا، واعتبرت أن الاتصال المباشر بين حماس والبيت الأبيض دون التنسيق معها يعد ” تشتيتا للموقف الفلسطيني”، بل وصل الأمر بها إلى اتهام حماس “بالتخابر مع جهات أجنبية بدون تفويض وطني، وذلك ضد القانون الفلسطيني الذي يجرم التخابر مع جهات أجنبية”.
وفي المحصلة النهائية لم تحقق المفاوضات المباشرة نقلة نوعية، لكنها كانت فرصة للتعامل الأمريكي مع حماس كطرف سياسي وعسكري مؤثر، وهذا تطور إيجابي في ظل تعقيدات المواقف واختلالات الموازين الاستراتيجية إقليميا ودوليا، لكن الفرصة وئدت قبل أن تكتمل.