أنتم لا شيء، لا شيء إطلاقا. وأنتم مجرّد غبار مسرحي ليس إلّا.
ثمة مسرحيون، هم في أعلى سلّم الشهرة. تأملْ مساراتهم يا صاحبي، لقد كانوا صناعة إعلامية ليس إلّا، لقد كانوا أطول الواقفين في ساحات المخافر. أمّا عن أعمالهم فلا تسأل، ولا تتساءل كيف انتحلوا جهود الآخرين!
ثمة مسرحيون، هم أكثر المبدعين تذمرًا من المشهد المسرحي. تأمل خطاهم يا صاحبي، إنهم يسافرون إلى كل المهرجانات، إنهم الأكثر حظًا في الحصول على دعم لتجاربهم. أما عن سلوكهم فلا تسأل، ولا تتساءل كيف أصبحوا من الثوريين!
ثمة مسرحيون، هم الأكثر تورطًا في الإثم. تأمل ردود أفعالهم يا صاحبي، إنهم يشيّدون المقاصل في أول مهمة يُكلفون بها، إنهم يعمدون إلى تصفية مشاريع الآخرين. أما عن خصيمهم الإبداع فلا تسأل، ولا تتساءل كيف أصبحوا من الأمنيين.
ثمة مسرحيون، هم الآن أشد ضراوة من الضباع على الفن المسرحي. تأمل كيف أصبحوا كذلك يا صاحبي، لقد كانوا بالأمس مثل الأطفال، كانوا الأكثر تورطًا في الصدق. أما عن تحولهم فلا تسأل ولا تتساءل عن آلامهم القديمة، من قبل الآباء المسرحيين.
ثمة مسرحيون، ابتعدوا كثيرًا من المشهد المسرحي. تأمّل سرّ عزلتهم يا صاحبي، إنهم هناك مثل أطياف سائحة في المدينة. أما عن حالتهم هذه فلا تسأل، ولا تتساءل عن تلك القسوة التي دفعت بهم كي يصبحوا من الغائبين.
ثمة مسرحيون، لا نعرف لهم حضورًا في المسرح غير أسماء بعضهم. تأمل هذا الغياب يا صاحبي، إنهم هناك في وحدتهم مثل الله. أما عن وضعيتهم فلا تسأل، ولا تتساءل، فلهم في كل شبر من المسرح أتباع، إنهم من المهندسين.
ثمة مسرحيون، لم يأخذوا من تعاليم المسرح غير تنشيط الأقنعة. تأمّل يا صاحبي الجدوى من ذلك، إنهم يظهرون على أركاح الحياة بشكل مخاتل وماكر. أما عن اختيارهم ذلك فلا تسأل، ولا تتساءل عن راهننا المسرحي الذي تسيّره وجوه المقنعين.
ثمة مسرحيون، هم الآن أكثر المتورطين في الدفاع عن المسرح. تأمل يا صاحبي أسباب ذلك، إنهم فاشلون فشلًا عظيمًا من حيث الإبداع المسرحي، أما عن صمودهم ذلك فلا تسأل ولا تتساءل، فقد أصبحوا نقابيين.
ثمة مسرحيون، يخاف منهم الجميع. تأمل أسباب ذلك يا صاحبي، إنهم هنا في تلك المكاتب المغلقة، يركلون المسرح بأحذية القانون. أما عن جبروتهم فلا تسأل ولا تتساءل، فهم الإداريون.
ثمة مسرحيون، نشاهدهم مع كل المسرحيين. تأمل بعين الريبة يا صاحبي، إنهم مستعدون للجلوس حتى مع الشيطان. أما عن اضطرابهم ذلك فلا تسأل ولا تتساءل، فهم رب الانتهازيين.
ثمة مسرحيون، نراهم في معظم الأعمال المسرحية. تأمل هذه الظاهرة يا صاحبي. إنهم الأكثر استعدادًا للموت، إنهم في أمس الحاجة إلى كسب قوت عيشهم. أما عن فقرهم وبؤسهم فلا تسأل ولا تتساءل، فهم أول القرابين.
ثمة مسرحيون، لم يعد يعجبهم شيء. تأمل يا صاحبي، لقد خذلتهم خطاهم، خذلتهم أيضًا سياسات وجود المسرح وخرائط تحالفاته وتقاطعاته في المدينة. أما عن مصيرهم فلا تسأل ولا تتساءل، فقد أصبحوا من المتهكمين.
عفوًا، عفوًا أيتها السيدات والسادة. من نحن حتى نعقد هذا الهجاء ضد المسرحيين؟ نعتقد أن السيد ديونيزوس يريد أن يأخذ الكلمة في هذا الاجتماع، فليتفضل.
السيدات والسادة، الحضور الكريم
باسمي، وباسم أوصالي المطحونة طحنًا، وباسم المسرح سيد الأولين.
لقد كان يصعب عليّ الخروج من بطن التاريخ والعودة إليكم، ولكن الدعوة التي وصلتني من قبلكم حرضتني على ذلك. في الحقيقة لقد وجدت صعوبات كثيرة، من بينها توفير تذكرة السفر وظروف الإقامة وسبل المعاش في مدينتكم، ومن بينها -أيضا- ندرة المباحث والدراسات المتعلقة باجتماعكم الكريم، حتى أتمكن من إعداد هذه الورقة المتواضعة. أشكركم جميعًا على حسن الاستقبال، ولكني لم أفهم لماذا كان كل فرد منكم يريدني في اجتماع ثنائي، بعيدًا عن الأنظار. صدقوني لقد زرت أكثر من عشر حانات في ثلاثة أيام فقط، وها أنا بينكم أتطاوح مخمورًا، ولا أعرف في أي حانة أضعت الورقة النقدية التي سأقدمها لكم في هذه المداخلة المتواضعة.
السيدات والسادة، الحضور الكريم
وأنا قادم إليكم عبر منعطفات التاريخ، أضعت حقائبي أيضًا. في الحقيقة، لقد فتك بها الجمارك. في المرة الأولى وأنا أعبر بحر إيجة باتجاه اليونان، اعترضنا القراصنة وانتشلوا حقيبتي الأولى، وضاعت في المرة الثانية، وأنا أتعرض للسبي في تلك المدينة، بعد أن وجدت رفاقي “الساتير” فاضطررت إلى العربدة معهم في الساحات العامة، ومن ثم وجدت نفسي مقيدًا في القاعات المغلقة وأنصال المحاربين، تمزق جسدي العليل هذا، وفي المرة الثالثة، وأنا ألبّي دعوتكم، كنت قد عبرت أوروبا بأكملها، واستقر بي المطاف في أرضكم الطيبة، لكن الشرطة في مطاركم تونس- قرطاج أخبرتني أن حقيبتي لم تصل ولن تصل. ثم ها أني بينكم الآن وضاعت الورقة النقدية أيضًا.
السيدات والسادة، الحضور الكريم
قرأت كتابًا وأنا في أوروبا لرجل يدعى جيل دولوز، يتحدث فيه عن فيلسوف انتحل اسمي. هذا الرجل يحمل اسم نيتشه، ويبدو أنه تلبّس بي وصار يذكرني في جل كتاباته. شدت انتباهي شذرة واحدة وهي التالية: “إن الشخصية التراجيدية الوحيدة هي ديونيزوس”. إنه يتحدث عني أنا، أنا هذا الذي أكثركم تعرّض للألم، حتى إني قررت المجيء إليكم من ظلمات التاريخ، لم أسلم منكم ومن شركم طيلة هذه الرحلة.
والآن، اسمحوا لي أن أسألكم: هل سمعتم عني يومًا أني كنت كارهًا للوجود مثلكم؟ لقد منحت المسرح لحمي ودمي ولم أتذمر من ذلك؟ لم أكن تراجيديًا، أيتها السيدات والسادة، بل كنت التراجيديا عينها، لقد سبق أن جُر جسدي على الأشواك حين رفضت البقاء على أسوار المدن، لقد زرعت روحي في قلوب الشعراء والمسرحيين والفلاسفة.. وهأنذا أعود من جديد فلا أجدها، لقد كنت أعتقد أن المسرحيين وحدهم من سيحل في جسدي، كي يُنْثَرَ الحب في هذا العالم، لقد كنت أعتقد أن كلًا منكم سيصبح ديونيزيا وهكذا تتفرق أوصالي في وجودكم ويصلح أمر الحياة والعالم. لقد كان يسمح لي، وأنا أتعرض للانتهاك، أن أخرج إلى أعياد المسرحيين وأشرب حصتي من الخمر وأعربد مغنيًا من أجل الحياة، فلماذا أصبحت معارككم بمثل هذه القسوة والضراوة؟ لست إلهكم، يا سادتي، أنتم أحفاد الظلام، والمسرح براء منكم. أتساءل الآن: هل أنتم فعلًا مسرحيون؟ أنتم قتَلة يا سادتي، أين دفنتم أبنائي المسرحيين؟ أريد أن أعرف في أي مكان أجد مقبرة مدينتكم، أريد أن أطحن القمح وأتركه على قبورهم، حتى ما إذا ما خرجوا أكلوا القليل.
السيدات والسادة، الحضور الكريم
غدًا تقلع طائرتي إلى موطني الأول، ولا أملك أجرة سائق التاكسي الذي سيوصلني إلى المطار، ما زلت أحتفظ في جسدي بقطرات من الدم، أرجو أن يكون ثمة من بينكم من يشتريها مني.
شكرًا، شكرًا على حسن الاستقبال والضيافة.
ولكن ثمّة مسرحيون رائعون !
