كتب عادل احمد
في توقيت لا يمكن وصفه إلا بـ”الحرج” بالنسبة للمنطقة حل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضيفا على القاهرة ، حاملا على عاتقه ما يشبه محاولة جادة لإعادة صياغة الدور الأوروبي في الشرق الأوسط وسط صراعات متشابكة وتوازنات دقيقة تتطلب من العواصم الكبرى ما هو أكثر من المواقف الدبلوماسية التقليدية.
الزيارة بدت منذ لحظتها الأولى ذات طابع خاص فبعيدا عن لقاءات القمة الرسمية كان لافتا حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على اصطحاب نظيره الفرنسي في جولة شعبية بين أزقة خان الخليلي ، حيث التاريخ يختلط بالحياة اليومية، والمكان يبوح برسائل الأمن والانفتاح والاستقرار في وجه منطقة تموج بالاضطراب. هذه الصورة الإنسانية العفوية ، أرسلت رسالة سياسية بليغة مفادها أن مصر ما زالت قادرة على تصدير الأمل ، حتى وسط العاصفة.
لكن الزيارة لم تكن سياحية بطبيعتها بل حملت على ظهرها ملفات كبرى على رأسها النزيف المستمر في غزة والتحديات المتصاعدة في البحر الأحمر وتدهور الأوضاع في ليبيا وسوريا ولبنان. وهنا تبرز أهمية التقاء الرؤى بين القاهرة وباريس لاسيما مع ازدياد اقتناع الدوائر الأوروبية بعدم جدوى التعويل الكامل على واشنطن التي بدا موقفها من الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية أكثر انحيازا وأقل قدرة على فرض الحلول.
ماكرون الذي سبق أن دعا إلى “استقلال استراتيجي” أوروبي يرى في مصر شريكا لا غنى عنه في بناء رؤية جديدة للمنطقة، قوامها التهدئة، وإعادة الإعمار، وخلق مسارات دبلوماسية قابلة للاستمرار. وقد لقيت هذه الرؤية ترحيبا في القاهرة خاصة أنها تتقاطع مع المبادرة المصرية التي تسعى منذ شهور لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة ، وبدء مرحلة إعادة الإعمار بشروط سياسية تضمن تجنب تكرار دوامات العنف.
زيارة ماكرون تُقرأ أيضا في سياق أوروبي داخلي إذ تواجه أوروبا ضغوطا هائلة نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية وتزايد الفجوة في السياسات بينها وبين واشنطن خصوصا فيما يخص التجارة والطاقة. ومن ثم فإن تعزيز العلاقات مع قوى إقليمية مثل مصر ليس فقط خيارا منطقيا بل ضرورة استراتيجية تعيد التوازن إلى السياسة الخارجية الأوروبية.
هناك أيضا بعد اقتصادي لا يقل أهمية فقد شهدت الزيارة توقيع عدد من مذكرات التفاهم وطرح مشروعات تعاون في مجالات الطاقة المتجددة، والنقل، والتعليم، والتكنولوجيا، ما يعكس رغبة فرنسية واضحة في تحويل العلاقة مع مصر من شراكة سياسية إلى تعاون شامل متعدد الأبعاد.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لباريس أن تقود تحولا أوروبيا حقيقيا في الشرق الأوسط؟ الإجابة تتوقف على مدى استعداد الدول الأوروبية الأخرى للانخراط الجاد في هذا التوجه ومدى قدرتها على التحرر – ولو جزئيا – من التأثير الأمريكي الذي كثيرا ما وضع أوروبا في موقف المتفرج لا الفاعل في أزمات المنطقة.
ومع أن الطريق لا يزال طويلا فإن ماكرون يبدو مستعدا للمراهنة على مصر كركيزة لهذا التحول ، إدراكا منه أن القاهرة ليست فقط قلب العالم العربي ، ولكنها أيضا بوابة العبور إلى استقرار إقليمي يحتاجه الجميع ، أوروبيين وعربا.
في المحصلة زيارة ماكرون لم تكن مجرد زيارة رئيس دولة إلى دولة صديقة بل محاولة لرسم خريطة جديدة لعلاقات أوروبا بالشرق الأوسط انطلاقا من القاهرة. وربما تكون تلك الخطوة هي البداية الحقيقية لصياغة دور أوروبي لا يكتفي بالتعليق على أزمات المنطقة بل يشارك بفعالية في صناعة حلولها.