يبدو أن الحرب التجارية المستعرة الآن بين الصين والولايات المتحدة ستتخذ أبعادا جديدة ، وتحمل العديد من السيناريوهات المحتملة في المستقبل القريب والبعيد.
وقد فاقت لغة التهديد والوعيد المتبادل بين الدولتين المتناحرتين ـ عبر حرب الرسوم الجمركية بصورة مبالغ فيها ـ منطق الأمور وقواعد التبادل التجاري المنصف،وتهدد حتما بتداعيات مؤلمة علي الجميع ،ولن ينجو من آثارها أحد.
ووفقا لمؤشرات الواقع فإن دول العالم قادمة لا محالة علي موجات غير محسوبة العواقب من التضخم والركود وحدوث أزمات مفتعلة و”فقاعات” ليست حقيقية في كثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية ،لا تعبر بصورة طبيعية وعادلة عن القيمة الفعلية للسلع والمنتجات ، بما تتضمنه من هوامش ربح “منصفة” لجميع الأطراف دون تهوين أو تهويل!.
وتتعقد الأمور يوما بعد يوم ما بين “حصافة” الصين ودعواتها للتفاوض والتنسيق ومحاولة امتصاص ثورة “ترامب” وإدارته ،لكنها أعلنت ايضا أنها لن تقف مكتوفة الأيدي وسوف تخوض الحرب التجارية مع الولايات المتحدة بقوة وجسارة حفاظا على مكتسابتها الضخمة وعلاقاتها المتميزة مع غالبية دول العالم ،والتي حققها خلال السنوات الأخيرة عبر استراتيجيات فعالة
وسياسات متوازنة ودراسة شاملة ودقيقة لاحتياجات أسواق الدول العظمى والنامية والناشئة علي حد سواء.
وفي تقديري أن الصين التي كرست جل جهدها في صناعة نموذج للإعجاز البشري في توظيف الموارد البشرية وتحقيق معدلات تنموية غير مسبوقة لن تجر إلي دوامة “الاستنزاف” عبر خوض حروب أو مواجهات عسكرية تدمر ما حققته عبر الثلاثين عاما الأخيرة اعتبارا من منتصف التسعينيات وحتي وقتنا هذا..
كما أنها تمتلك من الأوراق الاقتصادية والأرصدة ما يمكنها من فرض رؤيتها الاستراتيجية للخروج من مأزق “ترامب” الراهن وإتقاء شرور أفخاخ الإدارة الأمريكية الجديدة!.
وبقدر ما حققته من نجاحات إقتصادية فقد طورت من قدراتها العسكرية بمعدلات فائقة وفقا لإستراتيجيات الردع وتوازن القوي والحرب الباردة ،وتستعد أيضا للحظة المواجهة ،لكنها لن تقامر بمنجزاتها التاريخية كما يتخيل البعض!.
وفي ردها العملي على رسوم “ترامب” بدأت الصين في تفعيل منظومة تكنولوجية متطورة جديدة للتبادل التجاري الأممي تعتمد علي تسوية المعاملات بعيدا عن “دائرة” الدولار ، وبعيدا عن نظام”سويفت الدولي” ، (SWIFT) ،والذي اعتمدت عليها الدول مع تطور التجارة العالمية البينية في نهاية الستينيات من القرن الماضي.
وهو مؤشر خطير يؤسس للانهيار التدريجي للعملة الأمريكية الحاكمة.
وخلال السنوات الأخيرة وفي إطار المنافسة مع الولايات المتحدة برزت الصين، في السنوات الأخيرة، كمستثمر مهم في دول مجلس التعاون الخليجي، مدفوعةً بأهدافها الاقتصادية الإستراتيجية، والطلب المتزايد من جانب تلك الدول على الشراكات الدولية المتنوعة.
وتُعدّ مبادرة “الحزام والطريق” المعروفة بطريق “الحرير”، استراتيجية محوريةً للصين في الخليج، بهدف تعزيز الاتصال والبنية الأساسية، إذ إنّ الموقع الإستراتيجي للخليج عند مفترق طرق آسيا وأوروبا وإفريقيا، يجعله حيوياً لطرق التجارة، وأمن الطاقة في الصين.
كما سعت بكين لفرض هيمنتها اقتصادياً، في الخليج العربي، من خلال تجارة الطاقة، والاستثمارات في البنية التحتية والشراكات التكنولوجية، وقد وصلت فعلاً إلى موقع “الشريك” الاقتصادي الأساسي لدول الخليج.
ولعل هذا ما يقلق الإدارة الأمريكية التي تستعد لإبرام صفقات استثمارية هائلة مع دول الخليج قد تصل لأكثر 2 تريليون دولار وفقا لبعض التقديرات!.
ولا ريب أن الدور الصيني المتصاعد في الخليج يهدد الهيمنة الأمريكية وطموحاتها المستقبلية.
ومن منظور الولايات المتحدة، فالمنافسة الاقتصادية من خلال التفوق على الولايات المتحدة في التجارة والاستثمار
يشكّل تهديداً إستراتيجياً ، وتحولا في “ديناميكيات القوة”، فالنفوذ الاقتصادي والتكنولوجي والدبلوماسي المتزايد للصين سيؤدي حتما إلى إضعاف الهيمنة الأمريكية التقليدية في الخليج، مما يخل بالتوازن “الجيو-سياسي” في المنطقة.
وعلي الجانب الآخر تققف أمريكا علي حافة الهاوية لتصحيح أوضاعهم ومشكلاتها الإقتصادية متعددة الأبعاد، بعد أن تخلت عن المعايير والقواعد التقليدية العادلة للتبادل الاقتصادي ،وتسعي لإحداث صدمات جديدة كما فعلتها من قبل مرارا
لتفكيك عري الاقتصاد العالمي ، واستعادة مرتبة الصدارة ،والتخلص من
مشكلات الدين والعجز في ميزانها التجاري وتعويض هروب المستثمرين وانخفاض قيمة الأسهم والتراجع التدريجي في أرباح البورصة وتراجع قيمة العملة الأمريكية.
وأتصور أن الحكمة والحصافة الدبلوماسة قد غابت عن الإدارة الأمريكية في التعاطي مع هذا الملف في هذا التوقيت الحرج، وقد واصل الرئيس الأمريكي تهديداته وإستمراء لغة الاستعلاء حيث أكد مؤخرا أن الصين لن تفلت من العقاب على الاختلالات التجارية غير العادلة التي تسببت فيها من وجهة نظره..
وكتب ترامب على موقع “تروث سوشيال”: “لن يفلت أحد من العقاب على الاختلالات التجارية غير العادلة، والحواجز الجمركية غير النقدية، التي استخدمتها دول أخرى ضدنا، وخاصة الصين التي تعاملنا أسوأ معاملة على الإطلاق!”.
وفي تقديري أن خيار الضغط والابتزاز وإعلان التحدي الأمريكي دول العالم وعلي رأسهم دول الجوار، وتلك المقامرات التي تنتهجها إدارة “ترامب”، ستأتي بآثار عكسية وعواقب وخيمة ،وستدفع دول العالم بما فيهم حلفاء أمريكا المقربين إلي التفكير الجاد في فك الارتباط الأزلي الشائك مع الدولار الأمريكي،والسعي لإلغاء نظام “بريتون” والذي اتفقت عليه منذ يوليو عام 1944،هو النظام الذي ربطت فيه قيمة العملات بالدولار، وتم اتخاذه كعملة أساسية لتقييم الإحتياطي الإستراتيجي.
وبالفعل بدأت الدول في البحث عن البديل ،إما العودة لمعيار الذهب، أوربط عملاتها بسلة من العملات الدولية القوية والتي سيتم التوافق عليها.
ويري مراقبون ومحللون أن الولايات المتحدة أدركت مؤخرا ضرورة تصحيح المسار لتغيير استراتيجية الـ”فقاعات” التي احترفت صناعتها وتسببت في إضعاف إقتصادها مقارنة مع القوي الاقتصادي الكبري ، ويعيد للأذهان مشاهد الأزمة الإقتصادية العالمية عام 2008م ،والتي اكتوي العالم بنيرانها ،نتيجة لتداعيات أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة والتي تسببت في أزمة اقتصادية طاحنة، انتقلت تأثيراتها لغالبية دول العالم مع موجة تضخيمة وركود اقتصادي غير مسبوق!.
ومن الإجراءات المحتملة للرد علي الولايات المتحدة الأمريكية تلويح الكثير من الدول المضارة باتخاذ إجراءات فاعلة نحو التخلص من هيمنة الدولار وسيطرته علي اسواق المال والتجارة عبر السماح بالتبادل بالعملات المحلية أو التوافق علي سلة من العملات القوية كفترة انتقالية أو تدشين عملة موحدة كما تفكر دول مجموعة “بريكس”،وهو اتجاه محتمل الرد علي الصلف الأمريكي والجموح “الترامبي”، والذي هدد بسحق الدول التي تفكر في إضعاف الدولار أو التخلي عنه!.
ومع بودار اشتعال الحرب التجارية بكل تفاصيلها المزعجة ،ففي تصوري أن عالم اليوم ليس كعالم الأمس القريب ، فقد بدأت دول العالم تراجع نفسها ـ بما فيها دول الاتحاد الأوروبي الحليف التقليدي لأمريكا ـ وتفكر حثيثا في الفكاك من التبعية المطلقة سياسيا واقتصاديا للولايات المتحدة.
أما روسيا الند الأكبر للولايات المتحدة وأوروبا فقد تضررت كثيرا من جراء الحرب الأوكرانية المفتعلة التي استهدفت استنزاف مواردها الطبيعية والبشرية وتقويض مقدراتها وإضعافها في مواجهة الاتحاد الأوروبي والناتو..
وهي الآن “تداهن” مؤقتا الإدارة الأمريكية لتنظر ما يتم التوصل إليه بعد مفاوضات وقف الحرب مع أوكرانيا وفقا لوعود ترامب وفي إطار تحقيق مصالحها والإبقاء علي الأراضي والمنطق التي قامت بضمها في شبه جزيرة القرم وغيرها.
العالم الآن في مفترق طرق والجميع يعيد حساباته وترتيب أوراقه لإتقاء شرور “القطب الأوحد”،ومخططاته،
وحتي يقضي الله أمرا كان مفعولا ،فالمشهد الدولي شائك ومتغير بين الفينة والأخرى ،ويتسم بضبابية الرؤية والتوجس وعدم اليقين..
والأيام وحدها هي الكفيلة بالكشف عن ملامح المستقبل بكل تفاصيله !.