على الرغم من المبررات الكثيرة للصراع الأميركي الصيني؛ فإن ترامب تحديدا يحمل إرثا خاصا تجاه الصين! إذ يعتقد ترامب أن بكين ألقت بكارثة اقتصادية في عمق الولايات المتحدة تسببت في خسارته الانتخابات الرئاسية عام 2020 وإخراجه من البيت الأبيض، وذلك بسبب عدم شفافيتها في التعامل مع جائحة كورونا.
استخدمت واشنطن ثروتها الطائلة لإدارة النهوض باقتصادات أوروبا الغربية التي طحنتها الحرب وكذلك دول العالم الثالث. في إطار ذلك؛ صممت الولايات المتحدة استراتيجية لتحرير وتسهيل التجارة بين جميع دول معسكر الغرب الرأسمالي الذي تقوده. تضمنت هذه الاستراتيجية رسوما جمركية مخفضة بما يسمح للاقتصادات الأوروبية التي كانت قيد التعافي واقتصادات العالم الثالث الناشئة بالوصول إلى السوق الأميركية.
هكذا، كانت التجارة الحرة والتعريفات المخفضة سلاحًا رئيسيًّا خلال سنوات الحرب الباردة، سلاحًا ساعد في إعادة بناء أوروبا الغربية وتقويض الاتحاد السوفياتي وتقديم التحالف مع أميركا لشعوب العالم بوصفه بوابة النهوض الاقتصادي والرفاه،
في المقابل؛ لم يكن تحرير التجارة عبئا هينا، لكن الولايات المتحدة استطاعت تحمل تكلفته. سمحت ثروتها المالية الضخمة لاقتصادها بالعمل بفعالية على الرغم من اختلال التعريفات الجمركية والمساعدات الخارجية الواسعة، وظلت الأسعار المحلية في الولايات المتحدة منخفضة بفضل انخفاض تكاليف السلع المستوردة، التي تُنتجها الأيدي العاملة الرخيصة. كان ذلك وضعًا مربحًا للولايات المتحدة والدول الحليفة لها على حد سواء.
والأهم من ذلك؛ أن الشراكات التجارية والمساعدات المالية تطورت إلى تحالفات أمنية وثيقة. في جنوب شرق آسيا على سبيل المثال؛ استطاعت الولايات المتحدة تأسيس شراكات متينة مع دول مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية مكنت من حصار الصين في محيطها الإقليمي.
ولئن كان الثمن الذي دفعته الولايات المتحدة باهظا؛ فقد كانت النتائج الاستراتيجية مرتفعة للغاية لصالحها، إذ هزمت خصومها في عقود قليلة وتحولت إلى قوة عالمية وحيدة هيمنت على العالم على نحو لم تستطعه قوة منفردة من قبل.
ومن جانب آخر؛ فمع تقدم الزمن بنظام التجارة الحرة تبدت آثاره الجانبية داخل الولايات المتحدة نفسها بشكل أعمق، فتزايد العجز التجاري مع شركاء واشنطن حتى بلغ قرابة 1.2 تريليون دولار لصالحهم، وتقلصت قاعدة التصنيع في البلاد.
ويقول ترامب إن الصين، ودولًا آسيوية أخرى، قد تورطت في ممارسات تضر بالصناعات الأميركية مثل إغراق الأسواق الأميركية بالمنتجات الرخيصة، والتلاعب بالعملة المحلية، وسرقة الملكية الفكرية، وتقديم دعم حكومي غير عادل للشركات المحلية.
وفي خضم مغامرته التي يدعي أنها سوف تقلل عجز الميزان التجاري وتعيد حيوية قطاع التصنيع وتخلص بلاده من استغلال الدول الأخرى لثرواتها، فإن المخاطر الجيوسياسية تكتنف هذه المحاولة، وإذا كانت التعريفات الجمركية المنخفضة قد ساهمت في وضع قواعد النظام العالمي الحالي فإن العصف بها قد يعصف باستقرار النظام كله.
كما ساهم توطيد العلاقات الصينية الروسية بعد الحرب في أوكرانيا على الرغم من ادّعاء بكين الحياد، والتسارع المذهل في تسليح القوات البحرية الصينية ومحاولاتها للتوسع في بحر جنوب الصين في تعزيز ذلك الاستنتاج.
عندما فرضت إدارة ترامب الأولى رسوما جمركية على 13٪ من مجمل الواردات الصينية، كان رد بكين دبلوماسيا وهادئا، مما مكن البلدين من الوصول إلى عقد اتفاقية تجارية لتعويض عجز الميزان التجاري.
لكن الردود التصعيدية السريعة من جانب بكين هذه المرة تكشف عن استراتيجية جديدة تريد من خلالها ترسيخ التعامل الندّي مع الولايات المتحدة، ويبدو أن بكين قد تحوطت خلال الشهور وربما السنوات الماضية لتداعيات هذا التصادم المحتمل.
لم يقتصر الرد الصيني على فرض تعريفات جمركية مماثلة، بل امتد إلى فرض قيود على نظام التراخيص لتصدير سبعة عناصر أرضية نادرة ومُركَّبات ذات صلة تُستخدم في تصنيع مجموعة واسعة من المنتجات، من الأسلحة إلى المركبات الكهربائية.
كما أضافت الصين أيضًا 16 شركة أميركية (معظمها شركات دفاعية) إلى قائمة مراقبة الصادرات، وأضافت 11 شركة دفاعية أميركية إلى قائمة الكيانات غير الموثوق بها، ومنعتها من الاستيراد والتصدير والاستثمار في الصين.
ويبدو أن صناع القرار في بكين يراهنون على أن الأذى الذي سيلحق بالاقتصاد الأميركي سيكون مؤلما، ويمكن حينها أن تتراجع واشنطن. على الرغم من أن الصين استوردت في عام 2024 بضائع بقيمة 165 مليار دولار من الولايات المتحدة، بينما صدّرت بضائع بقيمة 525 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، فإنها تعتقد في المقابل أن خسارتها ستكون محتملة في سبيل إثبات القدرة على مراغمة الولايات المتحدة ومقاومة ضغوطها.
وتُعدّ الصين المُورّد الرئيسي لأكثر من ثلث المنتجات التي تشتريها أميركا من الخارج، حيث تُلبّي 70% أو أكثر من الطلب الخارجي الأميركي، وفقًا لبنك غولدمان ساكس، وستزيد الحرب التجارية أسعار هذه السلع بأكثر من الضعف.
أصبحت الرسوم الأمريكية على ما قيمته 34 مليار دولار من البضائع الصينية فعالة في السادس من يوليو، وقامت الصين بفعل المثل على نفس القيمة. هذه الرسوم تمثل ما قيمته 0.1% من إجمالي الناتج المحلي
شهد حجم تبادل السلع التجارية بين الولايات المتحدة والصين نموًا سريعًا منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في الصين في أواخر سبعينيات القرن العشرين. تسارع نمو التجارة بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، فأصبحت الولايات المتحدة والصين أهم الشركاء التجاريين. استوردت الولايات المتحدة من الصين باستمرار أكثر مما صدرته إليها، مع ارتفاع العجز التجاري الثنائي للولايات المتحدة في السلع مع الصين إلى 375.6 مليار دولار في عام 2017.
انتقدت حكومة الولايات المتحدة في بعض الأحيان العديد من جوانب العلاقة التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بما في ذلك العجز التجاري الثنائي الضخم، علاوة على أسعار الصرف غير المرنة نسبيًا في الصين. فرضت إدارتا جورج دبليو بوش وباراك أوباما رسومًا وتعريفات جمركية على المنسوجات الصينية في سبيل حماية المنتجين المحليين في الولايات المتحدة، واتهمتا الصين بتصدير هذه المنتجات بأسعار الإغراق التجاري. أثناء فترة رئاسة أوباما، أضافت الولايات المتحدة اتهامات أخرى إلى الصين بسبب تعزيزها إنتاج الألومنيوم والصلب، وبدأت مجموعة من التحقيقات في مكافحة الإغراق الذي تمارسه الصين.
على الرغم من ذلك، استمرت التجارة بين الولايات المتحدة والصين في النمو خلال عهد هاتين الإدارتين. خلال هذا الوقت، نما اقتصاد الصين ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم (وفقًا لأسعار الصرف الاسمية)، وثاني اقتصاد في الولايات المتحدة. كان للمبادرات الاقتصادية الصينية الشاملة، كمبادرة حزام واحد طريق واحد، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية والخطة الصينية التصنيعية 2025، دور في إثارة قلق بعض صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة. على نطاق أوسع، اعتبرت حكومة الولايات المتحدة النمو الاقتصادي في الصين تحديًا للهيمنة الاقتصادية والجغرافية السياسية الأميركية
فرض قيود على التصدير: أعلنت الصين عن فرض قيود تصديرية على معادن استراتيجية مثل التنجستن والإنديوم، مما يؤثر بشكل مباشر على الصناعات الدفاعية وصناعة أشباه الموصلات الأميركية.
إدراج شركات أميركية في قوائم المراقبة: أدرجت وزارة التجارة الصينية 12 شركة أميركية، ضمن قائمة الكيانات الخاضعة للرقابة على التصدير، كما أدرجت 6 كيانات أميركية أخرى ضمن قائمة الكيانات غير الموثوقة.
فتح تحقيقات تجارية: بالتعاون مع الإدارة العامة للجمارك، فتحت وزارة التجارة الصينية تحقيقات لمكافحة الإغراق وتعزيز القدرة التنافسية الصناعية بشأن أنابيب الأشعة المقطعية الطبية المستوردة من الولايات المتحدة والهند.
أحدثت هذه الإجراءات تأثيرات على فرص التوصل إلى اتفاق بين الجانبين، على النحو التالي:
التصعيد المتبادل في الرسوم الجمركية والإجراءات المضادة يُعمق من حدة النزاع التجاري بين الجانبين الصيني والأميركي، ويزيد من التوترات، مما يجعل من الصعب على الطرفين تقديم تنازلات على طاولة المفاوضات. كما أن الردود الجمركية المتبادلة تضعف الثقة المتبادلة بين الطرفين. فالضرائب الأميركية الأحادية، ورد الصين عليها، يثيران الشكوك بشأن استقرار السياسات ونوايا كل طرف، مما ينعكس سلبًا على أجواء التفاوض. بالإضافة إلى ذلك، أظهر تصعيد الحرب الجمركية حجم الخلافات والتباينات بين الجانبين في مجالات التجارة والسياسات الصناعية، مما يزيد من تعقيد الملف.
في قطاعات رئيسية مثل أشباه الموصلات والطاقة الجديدة، لا تقتصر المشاكل على الرسوم، بل تشمل أيضًا القيود التقنية والدعم الصناعي، مما يستوجب حل قضايا متعددة للوصول إلى اتفاق شامل.
رغم أن هذه الإجراءات زادت من حدة التوتر على المدى القصير، إلا أنها قد تدفع الولايات المتحدة لإعادة النظر في سياستها التجارية بعد أن تشعر بالتأثير الحقيقي للنزاع، خاصة في ولايات زراعية أميركية.
وعند آخر مستجدات التصاعد الجمركي بين الصين والولايات المتحدة، أكدت الصين اليوم الاثنين عبر تصريحات وزارة التجارة الصينية أنها تحترم التعاون والتفاوض بين الولايات المتحدة والدول الأخرى، لكن هذا التعاون والتفاوض بينهما حول الرسوم الجمركية لا يمكن أن يكون على حساب المصالح الصينية.
كما أكدت الصين على أهمية النظام التجاري المتعدد الأطراف، وتعارض قيام أي دولة باتخاذ إجراءات جمركية أحادية الجانب أو توقيع اتفاقيات استبعادية تضر بمصالح الدول الأخرى.
وفي الوقت ذاته، دعت الصين الدول إلى التمسك بالتعددية الحقيقية، ورفض كافة أشكال الأحادية والحمائية، والدفاع عن نظام التجارة المتعدد الأطراف بقيادة منظمة التجارة العالمية.
وزار الزعيم الصيني شي جين بينغ فيتنام وماليزيا وكمبوديا الأسبوع الماضي، حيث سعى إلى تعزيز العلاقات مع شركاء بكين التجاريين. ويواجه المصدرون في جنوب شرق آسيا تعريفات جمركية باهظة في ظل إدارة ترامب، التي اتهمتهم أيضًا بالعمل كقناة شحن للبضائع الصينية.
وسعت الصين إلى تصوير نفسها كركيزة أساسية في النظام التجاري الدولي. لكنها تُعاني من ضعف الطلب المحلي في أعقاب تباطؤ حاد في سوق العقارات، مما يُجبر صانعي السياسات على الاعتماد على التصنيع والصادرات لتحقيق النمو الاقتصادي، ويُعرّض الاقتصاد لخطر الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. كما وعدت بكين بمبادرات مختلفة لتحفيز الاستهلاك ولكنها امتنعت عن إطلاق تحفيز مالي “قوي”، واستثمرت بدلا من ذلك بكثافة في الصناعة للتخلص من اعتمادها على التكنولوجيا الغربية، التحركات الصينية الأخيرة تجاه الولايات المتحدة تمثل مرحلة انتقالية من موقع رد الفعل إلى موقع الفعل الاستراتيجي، حيث تسعى بكين إلى إعادة تشكيل التوازن الدولي من موقع الندية.
لا تكتفي الصين بالرد على الضغوط الأميركية، بل توظف أدواتها الاقتصادية والتكنولوجية والجيوسياسية لفرض وقائع جديدة تُعزز مكانتها كقوة قادرة على التأثير في النظام العالمي، لا مجرد التفاعل معه. هذه الدينامية تندرج ضمن استراتيجية “الردع بالتمكين”، إذ تستخدم الصين قدراتها في القطاعات الحيوية كسلاح ضغط لإعادة صياغة العلاقة مع واشنطن، وفي الوقت نفسه تبني منظومة تحالفات موازية من خلال الانخراط مع دول الجنوب العالمي وتعزيز التعاون مع قوى دولية منافسة للغرب. هذا التمكين يهدف إلى خلق شبكة نفوذ مستقلة تُضعف الهيمنة الأميركية وتمنح بكين هامشاً واسعاً للمناورة. بالتالي، فإن التصعيد الصيني ليس مجرد رد على خطوات أميركية، بل هو تجل لمشروع جيوسياسي طويل الأمد، تسعى من خلاله بكين إلى انتزاع موقع قيادي في النظام العالمي، وإعادة تعريف قواعد اللعبة الدولية بما يضمن توازن قوى جديد يتجاوز المعايير التي فرضتها الهيمنة الغربية لعقود.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا