بعض الأمم تظل أسيرة ماضيها تفتش فيه عن مجد ضائع أو تلعق جراحا لم تندمل. وبعضها الآخر يكتشف أن الزمن لا يعود إلى الوراء وأن الطريق الوحيد للحياة هو أن تنظر إلى الأمام. ومصر فى لحظة فارقة من تاريخها، قررت أن تخلع عنها رداء الحنين وتلبس عباءة المستقبل.
فى العقود الأخيرة عاشت مصر كثيرا من الأزمات ، بعضها بفعل فاعل ، وبعضها نتيجة التراكم والإهمال والعجز عن الرؤية والتخطيط. رأينا عشوائيات تتمدد كالورم ، ومرافق تتآكل ببطء ، وشوارع تُبلى على مدار الزمن وسكانا يزدادون بلا خطة ولا تصور. وكان يمكن الاستسلام لهذا الواقع ، أو الاكتفاء بترقيعه ، كما اعتدنا طويلا لولا أن جاءت لحظة صدق مع النفس: هل هذا هو الوطن الذى نرضاه لأنفسنا ولأبنائنا؟
الإجابة جاءت حاسمة: لا.
لم يكن الحل أن نُجمّل وجه الماضى ، بل أن نصنع وجها جديدا للمستقبل.
هنا بدأت الفكرة فكرة الجمهورية الجديدة .. جمهورية لا تبدأ من قصور الحكم بل من وجدان الشعب. جمهورية تبنى على التخطيط لا على المصادفة، وعلى الشجاعة لا على التردد، وعلى الرؤية لا على رد الفعل.
تلك هى روح العاصمة الإدارية الجديدة. ليست مجرد مبانٍ شاهقة أو طرقا فسيحة أو ميادين أنيقة. بل هى ترجمة عملية لفلسفة جديدة فى الحكم والإدارة والعمران. فلسفة تؤمن بأن المواطن يستحق دولة محترمة ، تعمل بكفاءة وتُدار بأدوات العصر ، وتضع الإنسان فى قلب مشروعها.
حين تزور العاصمة الجديدة لا تُبهرك فقط العمارة أو التنظيم بل يباغتك السؤال الأهم: لماذا تأخرنا كل هذه السنوات عن أن نحلم بهذا الشكل؟ ولماذا كنا نظن أن بناء دولة حديثة رفاهية لا نقدر عليها؟
الحقيقة أن الدولة المصرية اختارت أن تسلك الطريق الصعب. أن تخرج من ضيق الزحام إلى رحابة التخطيط. من وهم الترقيع إلى عقلية التأسيس. أن تنقل المواطن من ثقافة الطوارئ إلى منطق الاستقرار.
وهى بذلك لا تنكر مشاكل الماضى ولا تتجاهل التحديات بل تواجهها من الجذور. فإعادة بناء البنية التحتية ومد شبكات الطرق والكهرباء والصرف الصحى ، وبناء مئات الآلاف من الوحدات السكنية ، وربط الريف بالمدينة ، وتطوير العشوائيات ، هى معارك حقيقية لا تقل ضراوة عن معارك الحدود
صحيح أن هذه النقلة تواجه بصعوبات وأن الأعباء الاقتصادية باتت ثقيلة على الجميع ولكن ما يُخفف هذه الأوجاع أن هناك هدفا واضحا ومشروعا نراه أمامنا يتحقق وأملا يُبنى على الأرض وليس فى الخيال.
فى أزمنة كثيرة كان المواطن يسمع عن خطط ومشروعات لكنه لا يراها إلا فى نشرات الأخبار. أما الآن فهو يرى بعينه مدنا جديدة ترتفع، ومصانع تُفتتح، ومزارع تثمر، ومحطات كهرباء ومياه ونقل عملاق تغير خريطة الحياة فى مصر.
بعضنا يتساءل: وهل كان من الضرورى أن نبدأ بكل هذا التوسّع؟
والإجابة: نعم لأن تأجيل المعركة هو هزيمة مؤجلة. ولأن بناء المستقبل لا يحتمل أنصاف الحلول. لأننا إذا انتظرنا “الظروف المثالية”، فلن نبدأ أبدا.
هكذا تفكر الدول حين تقرر أن تبنى نفسها من جديد. وهكذا تفعل مصر اليوم.
فى الطريق إلى مصر الجديدة ، لن نلتفت كثيرا إلى صراخ اليائسين ، ولا إلى شكوك العاجزين. لأن القطار انطلق ومن لا يلحق به فاته زمنه.
نحن لا نُصلح الماضى.. نحن نكتب فصلا جديدا فى كتاب الوطن.