في ذكرى ميلاده، لا يزال يوسف إدريس يطل علينا كطيف يثير أسئلة وجودية حارقة، وصرخة في وجه مجتمع غالباً ما يُفضل الصمت. لقد تجرأ هذا الأديب على الغوص في أعماق الذات المصرية ليخرج لنا بحقائق مرة، متوشحاً رداء الاغتراب الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من أسطورته. وفي هذا السياق، يبرز مقال الدكتور أحمد يوسف “يوسف إدريس: بين الاغتراب والأسطورة”، المنشور مؤخراً في مجلة أخبار الأدب، كمنظور نقدي بالغ الأهمية يُسلط الضوء على هذا الجانب المعقد من شخصية إدريس وإبداعه.
ينطلق الدكتور أحمد يوسف في مقالته من فكرة محورية، قوامها أن يوسف إدريس لم يكن مجرد كاتب، بل ظاهرة أدبية استثنائية، تستحق التأمل العميق والغوص في أغوارها. فهو يرى أن إدريس يُمثل حالة فريدة من التفاعل بين عبقرية المبدع ومعاناة المغترب، إذ امتزج في روحه شغف الفنان بمرارة المنبوذ، وشموخ المتمرد بحنين العاشق لوطن يراه، ربما، بعينين لا تريان ما يراه. لقد كان إدريس، في جوهره، صوتاً صارخاً في برية الصمت، يصدح بالحقيقة حتى وإن آلمت، ويشتبك مع الواقع حتى وإن جرح.
ولا يغيب عن فطنة القارئ أن هذا الاغتراب الذي نسج خيوط شخصية إدريس الأدبية لم يكن قدراً محتوماً، بل خياراً واعياً، وربما ثمناً باهظاً لصدق نادر في زمن قلّ فيه الصادقون. لقد كان الراحل يُدرك تمام الإدراك أن كلماته، كسهام طائشة، ستصيب مكمن الداء في جسد المجتمع، وأنها بالتالي ستثير حفيظة الكثيرين. لكنه، كالفنان الحقيقي، آثر أن يكون مرآة تعكس الواقع بكل ما فيه من قبح وجمال، على أن يكون بوقاً يردد صدى أجوفاً.
ويتميز تناول الدكتور أحمد يوسف لهذا الموضوع الحساس بعدة جوانب تضفي على مقالته قيمة استثنائية. فهو يقدم، أولاً، رؤية شاملة ومتوازنة لإدريس، لا تقتصر على الجانب المأساوي في حياته، بل تتعداه إلى استعراض عبقريته الأدبية وإسهاماته الرائدة في تطوير القصة القصيرة والرواية والمسرح العربي. إنه يوازن ببراعة بين التركيز على اغترابه وإبراز الجوانب الأخرى في شخصيته وأعماله، مقدماً بذلك صورة متكاملة لإدريس الإنسان والأديب.
وثانياً، يغوص الدكتور أحمد يوسف في تحليل متعمق لأسباب هذا الاغتراب وتجلياته في أعمال إدريس، ولا يكتفي بوصفه ككاتب مُغترب، بل يسعى لفهم الدوافع الكامنة وراء هذا الشعور، وتأثيره على علاقته بالمجتمع والنقد. كما أنه يحلل ببراعة التناقضات التي ميزت شخصية إدريس، ويقدم تفسيراً مقنعاً لها، كالتناقض بين الشموخ الظاهري والشوق الدفين إلى التواصل والتقدير.
وثالثاً، يعتمد الدكتور يوسف في تحليله على مصادر متنوعة وغنية، تظهر دارسة وتحليل نقدي لكتابات إدريس نفسه، وآراء النقاد الآخرين، والشهادات التاريخية، مما يضفي على مقالته مصداقية وعمقاً، ويجعلها مرجعاً هاماً للباحثين والمهتمين بأدب إدريس.
ولا يغيب عن الأهمية أن نُشير إلى الأسلوب الأدبي الرفيع الذي يتميز به الدكتور أحمد يوسف، حيث يجمع بين الدقة العلمية والجمال اللغوي، مما يجعل قراءة مقالته ممتعة ومفيدة في آن واحد. فهو لا يكتفي بعرض الحقائق والمعلومات، بل يُضفي عليها لمسة إبداعية تجعلها أكثر تأثيراً ورسوخاً في ذهن القارئ.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى الرؤية الشخصية التي يحملها الدكتور أحمد يوسف لإدريس، والتي تتجلى في ثنايا مقالته. فهو لا يتردد في التعبير عن إعجابه بهذا الكاتب الفذ، وربما تأثره به ككاتب وناقد، مما يضفي على مقالته بعداً إنسانياً وشخصياً، ويجعلها أكثر صدقاً وتأثيراً.
وختاماً، تنجح مقالة الدكتور أحمد يوسف بامتياز في تقديم صورة متكاملة ومتوازنة ليوسف إدريس، كاتباً وإنساناً. فبتحليله المتعمق وأسلوبه الأدبي الرفيع ورؤيته الشخصية، يقدم لنا الدكتور أحمد يوسف إضافة قيمة للدراسات النقدية، بطرحٍ يجمع بين عمق المنهج وسهولة الوصول، ليناسب مختلف القراء والباحثين المهتمين بهذا الكاتب الكبير. إنه يُثري فهمنا لإرث يوسف إدريس الأدبي والإنساني، ويفتح أمامنا آفاقاً إبداعية وفكرية فريدة ستضيء دروبنا لأجيال قادمة.