وأنا صبي كان والدي- رحمه الله – يصطحبني معه أينما ذهب ، فقد كنت الولد الوحيد بعد أربع بنات ، وعند الفلاحين في قرى مصر ليس الذكر والأنثى ، كان يبوح لي بما في نفسه أحيانا ، فيقول لي : لقد رزقني الله بك بعدما بلغت الأربعين من العمر ، كنت أدعو الله في ظلمة الليل ، وأنا في طريقي إلى الحقل لري الأرض ، بدعاء نبي الله زكريا – عليه السلام – 🙁 رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ) .
كان يحكي لي كثيرا عن كل شيء في قريتنا ، عن الناس والأحداث والتواريخ ، وعن أحلامه وطموحاته ، وعن الظروف القاسية التي عاشها في طفولته ، عن موت أبيه وهو لا يزال طفلا صغيرا ، وعن حرمانه من التعليم بسبب الفقر الشديد الذي أصاب الأسرة ، علي الرغم من حفظه للقرآن الكريم كاملا وهو في سن مبكرة ، وحصوله على جائزة قدرها جنيها واحدا ، ومصحفا قيما نقش عليه اسمه بالخط الغائر .
كان طيبا حقا ، كان على رأس أرضنا شجرة عتيقة ، يمتد أحد فروعها على جزء من أرضنا ، فيحجب الشمس ، ويضعف الزرع ، وكنت أقول له : لماذا لا تقطع هذا الفرع حتي يقوى الزرع ؟ فيبتسم ابتسامة خاشعة ويقول : خليه للناس تستظل به . وكان في بعض الأحيان يداعبني ، فيمسك ذقني بيده اليمنى ويقول لي وهو يبتسم : إنت اسمر صحيح لكن كل البنات هتحبك .
وكنت أعجب من كلامه هذا ، وأقول في نفسي : ما فائدة أن تحبني كل البنات أو لا تحبني ؟! لكنني بالطبع فهمت بعد ذلك ما كان يقصده والدي ، لكن نبوءة والدي لم تتحقق ، ويا للأسف ! فلم تحبني كل البنات كما كان يتمنى لي ، والذي حدث بالفعل أنني أنا الذي أحببت كل البنات .
كاتب المقال
كاتب وباحث
دماص – ميت غمر- الدقهلية