من نافذته المفتوحة دائما يطل علي كل صباح .. هذا الصغير الرائع بابتسامته المشرقة ثم يلوح بيده الصغيرة فأرد عليه تحيته الرقيقة فيزداد إشراقا و فرحه ثم يغيب داخل غرفته ،و يوما بعد يوم أصبح قريبا إلى قلبي .
و من الجيران عرفتُ انه يعيش مع زوجه ابيه التي تقسو عليه أحيانا و ذات مساء سمعت أصوات زحام حول الفيلا المجاورة لنا و التي يقيم بها هذا الملاك الصغير وكان الوقت متأخراً و البرد قارصاً فاستطلعت الامر فوقع على الخبر كالصاعقة. أخبروني بان الصغير رحل متجمداً من البرد فى الحديقة . فاستحضرت صورته المشرقة ووجهه الذى جمع الابتسامة مع لمحة حزن فى عينيه فازداد انفعالى شيئاً فشيء و أنا أردد دعاء الصامتين و هذا ما ينتابنا أحيانا فنشعر بأننا نصرخ نتوعد من القهر و الكمد و قلة الحيلة ثم تمطرنا صفعات اليأس فيتحول كل هذا إلى دعاء الصامتين و هذا الدعاء ليس بينه و بين الله حجاب ، فدعاء الصامتين استنكارمُكبل على أصحاب القلوب القاسية التى لا تتخلى عن ثوب الأنا و الأنانية و التى ترفع شعار” الدفء لى وحدى و البرد للجميع و أنا و من بعدى الطوفان ” .
و أفقتُ من شرودى و ارتديت ملابس ثقيله من شدة البرد و قادتنى خطواتى إلى بوابة الفيلا حيث الزحام لأتبين تفاصيل ما حدث . كانت الخادمة وسط الزحام ساخطة متبرمة، أخبرتنى فى ذهول بان الصغير كان مريضا بسعال شديد و تتضاعف مرضه بإهمال زوجة ابيه و انشغال والده المتواصل، وفى هذا الصباح استيقظ الصغير مبكراً يلعب ببعض اللعب التى أحضرتها له خالتهُ فاستيقظت زوجة ابيه على صوت لعبتهِ فزجرته ثم حطمت لعبته فارتمى على الأرض فى قهر يتلمسها و ألجمه الخوف من ان ينطق بكلمة .
ولم يخرجه من هذا القهر الا مرور قطتهُ الصغيرة و هى تتمسح فى قدميه و تواسيه فمسح بدوره على رأسها و لمعت عيناه و كأنه يتذكر أمه التى كانت تشاركه لعبه و تقبله و تعانقه فتمنى لو كانت زوجة أبيه تقوم بنفس الدور و لكنها انشغلت بوضع المسكات على وجهها لتزداد جمالا خارجياً و هى لا تدرى كم هى قبيحة من الداخل .
و استكملت الخادمة حديثها بأنه فى المساء كانت السيدة تستعد لوليمة كبيرة للأهل و الأصدقاء .. وبعد ان تجردت من مشاعرها الإنسانية سحبت الطفل من يده وعيناه تتطلع للمائدة الكبيرة المملؤة بأشهى المأكولات و لكنه ابى ان يطلب شيئا من شدة الخوف و استسلم مغلوباً على أمره إلى ان قذفت به السيدة إلى الحديقة متذرعة بتفادى قلقه للضيوف ثم حملت إليه إناء به بعض الفتات البارد فتسللت قطته الصغيرة خلفه فأخذ يملس بيده الصغيرة على رأسها يلتمس شيئا من الدفء فشعرت قطتهُ ببروده يده فغابت لحظات ثم عادت تحمل بين أسنانها قطعة من السمك وضعتها أمامه و اخذت تتطلع له فى حنان فعافت نفسه ان يأكل طعامها و أخذ يسعل و البرد يفترسه إلى ان تجمد و طاحت رأسه للخلف و كأن الملائكة تحمل روحه الطاهرة بعد ان عفاه الله من ظلم البشر وتقبل منه دعاء الصامتين .
و حين انتهى الجميع من التهام الوليمة اكتشف والده ان غرفته خالية فخرج مهرولاً للحديقة ليكتشف رحيل الصغير تاركاً خلفه لعنات على من قست قلوبهم و تحجرت . ابكتنى هذه الأحداث التى مرت علينا ككابوس و قلت فى نفسي لو كنت مكان هذه المرأة التى أعياني تفكيرى ان اجد لها مسمى لأحتضنت ذاك الصغير كلما وقعت عليه عينى قبلته و لاخترت له اجمل الثياب و أطعمته بيدى كل ما يحب و لأجلسته على قمة مائدة ضيوفى ليداعبوه فيشعر بالدفء و لأصبحت صحته هى شاغلى الشاغل .
و بدأ انفعالى يزداد من الداخل و سترنى الصمت .. صمت المقهورين فوجدتنى أستحضرها و أقول لها و لكل من أحتل مثل مكانها : (يا أختاه ُ ما كان سينقص من شأنك ان تصونى الأمانة و تستمتعى بنعمة العطاء .. فما كان لهذا الصغير الصامت ان ينقص من و ليمتك على العكس كان سيزيد من قدرك و ميزانك و كان سيضفي على الحاضرين كثيرا من المرح و كان سيستشعر بالدفء من مداعبة الاخرين له .. فرسولنا الكريم صلى الله علية و سلم قال ” من لا يرحم لا يُرحم”) ، و بينما أنا على هذا الاحساس بالقهر شعرتُ ان المكان يزداد ازدحاماً بالقادمين و من تلاحم الناس بدأ الدفء يشع فى المكان الذى خُيم عليه الصمت الا من انين الأب الذى كان يردد بصوت يشق الصمت ” سامحنى يا بنى” و إذا شاب يشع النور من وجهه يتقدم من الأب و يخلع سترته و يلقى بها على الصغير ويحمله ثم اخذ يمرر يده على جسدة و يضغط على كفه الصغير ليشع الدفء فى جسده البارد ثم أخذ يتمتم ببعض الآيات القرآنية و تعالى دعاء الصامتين ، و بينما نحن على هذا الحال وصلت سيارة الإسعاف و اسرع الطبيب يشق طريقه فى خطى سريعة بين المتزاحمين ثم وضع سماعته على صدر الصغير ليعلن بان الصغير مازال على قيد الحياة و يسرع بنقله فى سيارته المجهزة و ينطلق وسط زغاريد الحضور و بكائهم و دعاء الصامتين الذى تحول إلى تهليل و تكبير.