خلصنا في مقال الأسبوع الماضي الى أن المأزق العربي نتاج للأزمة الثقافية التي تعيشها الأمة والتي تقودنا إلى تصرفات في الغالب غير رشيدة وبالتالي تتفاقم الأزمة يوما بعد يوم . وللمزيد من الايضاح فأن المأزق العربي يتعلق بالعقل العربي الذي يبتعد عن التفكير العلمي بسبب عدم إعداد عقول عربية واعية تسمو فوق الانتماءات القبلية والعنصرية وتتخطى الاختلافات الطائفية والعرقية والمذهبية.
وقد نبهنا إلى هذه الأزمة منذ عقود المفكر المغربي محمد عابد الجابري في مشروعه الفكري القيم المتمثل في سلسلة ( نقد العقل العربي ) والتي قدم لها بالقول :” إن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة ، ولكن نهضتنا العربية الحديثة جرت فيها الأمور على غير هذا المجرى ، ولعل ذلك من أهم عوامل تعثرها المستمر إلى الآن”. ونبهنا إلى ضرورة الإسراع في تنفيذ مشروع نقد العقل العربي لأنه تأخر كثيرا بقوله :” يتناول هذا الكتاب موضوعاً كان يجب أن ينطلق القول فيه منذ مائة سنة “.
ما أحوجنا أن تسارع المؤسسات العلمية والتعليمية العربية لتدارس مشروع المفكر الجابري( نقد العقل العربي ) بأجزائه الأربعة: “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” و”العقل السياسي العربي” و”العقل الأخلاقي العربي ” والاستفادة من توصياته لأن العقل الصحيح يصنع الثراء والتقدم الحقيقي.
واذا كان الجابري قد تناول أزمة تكوين العقل العربي بشكل فلسفي يصعب على الكثيرين فهمه فإن الدكتور فاروق القاسم العالم الجيولوجي العراقي الأصل النريجي الجنسية تناولها بشكل واقعي ولخصها في ضعف الاستثمار في الانسان العربي بقوله :” “في عصرنا الحالي الشعوب المتخلفة فقط هي التي تنظر لباطن الأرض ما الذي ستحرجه كي تعيش .. في الوقت الذي أصبح الانسان بحد ذاته هو الاستثمار الناحج والأكثر ربحا “. وأوضحها القاسم صراحة بقوله :” أثرياء العالم لم يعودوا أصحاب حقول النفط والثروات الطبيعية ، وإنما أصحاب التطبيقات البسيطة على الهاتف الجوال”. وضرب على ذلك مثلا بمالك شركة مايكروسوفت بيل جيتس الذي يربح 226 دولارا كل ثانية وهو ما يتفوق على دخل عشرات من الدول التي تمتلك ثروات طبيعية تصدرها في شكل مادة خام. بل ان عمليات استكشاف واستخراج تلك الثروات الطبيعية ونقلها وتسويقها تتم بآليات أنتجتها عقول غير عربية ، ويديرها خبراء أجانب .
وهنا أؤكد انه ليس المقصود بعجز العقل العربي أنه يقل عن عقول الاخرين في القدرات حسب زعم المستشرق الأمريكي اليهودي رافائيل باتاي في كتابه ( العقل العربي ) المنشور عام 1973 أو حسب زعم العنصريين الغربيين الذين يفرقون بين القدرات العقلية بين البيض السود . فالله سبحانه وتعالى خلق البشر جميعا من جنس واحد مهما اختلفت ألوانهم وأنعم عليهم جميعا بنعمة العقل ليميزهم عن باقي المخلقوقات ، وفق مفهوم المفكر المغربي عبد الله العروي الذي يرى أن ” العقل هو الجزء غير الملموس من جسم الإنسان المسؤول عن العمليات الذهنية والنفسية التي يقوم بها الإنسان إرادياً أو لا إرادياً، كما أنه المنبع لكل السلوكيات والتصرفات والأفكار السليمة التي تميّز الإنسان عن غيره من الحيوانات غير العاقلة”.
والعجز المقصود هنا هو تقصيرنا في تكوين العقل وعدم توافر الارادة الحقيقية في استخدامه . وهو ما سنتناوله في الاسبوع المقبل.