الاخبارية – عادل يحيى
يطرح الروائي العراقي هيثم نافل والي في روايته الأحدث «الخناس»، التي تصدر عن دار المتنبي للترجمة والطباعة والنشر بالقاهرة، أسئلة وجوديّة عن الحياة والموت، والفردوس والجحيم ومصائر بني الإنسان، منطلقًا من إطار ديني بالأساس يتتبع رحلة هذا الإنسان منذ الولادة حتى الموت، وما يصاحب هذه الرحلة من «نخسات شيطانية» تؤثر في مصيره، حيث يولد خيرًا بلا ذنوب ثم ما يلبث أن ينتهي في الغالب إلى الشر.
عنوان الرواية «الخنّاس» يحيلنا إلى القرآن الكريم وسورة الناس التي تحذّر الناس من «شر الوسواس الخناس»، وهو مرتبط بذات الأسئلة الوجودية التي طرحها «والي» عن رسائل الشيطان التي تكتنف الإنسان خلال رحلته القصيرة إلى الآخرة، ولعل الكاتب اختار هذا العنوان لروايته التي أكد أنها الأخيرة في مشواره الأدبي، مدفوعًا بتجربة شخصية عاشها خلال حياته في ألمانيا، بعد هجرته من العراق في أعقاب الحرب التي استعرت في تسعينيات القرن الماضي، وتعرضه خلال الفترة الأخيرة إلى أزمة صحية خطيرة كادت تودي بحياته، قال إنه رأى الموت من خلالها قريبًا جدًا، وانفتحت أمامه رؤى جديدة عن الحياة ومصير الإنسان وما ينتظره في العالم الآخر.
يقول «هيثم»: «كنت قد بدأت بكتابة الفصول الخمسة منها قبل أزمتي الصحية، ثم أهملتها بسبب اعتزالي العمل الكتابي، لكنها بقيت تطاردني، تهمس لي في كل لحظة، خلقتني ولم تتم تكويني، ولا تريد أن تحضر حتى ولادتي، رق قلبي المسحوق لها، عذبتني، هي صادقة فيما ادعت، خلقتها ولم أتم تكوينها، وفي العرف الكتابي يعتبر شرًا ما بعد من شر، كفر بلا ذنب، غش للحقيقة وتمويه لها، أحسست بقلق وعذاب حتى قررت في ساعات ضائعة من عمري، وما أكثر تلك الساعات التي يعيشها الإنسان بلا رضا، حانقًا لا يرغب بالمزيد منها، جلست شاردًا لا أطلب غير رحمة الله، فكتبت ما كان ينقص خلقها، كونتها كاملة، رواية تستحق القراءة، وضعت فيها كل ما أملك من حدس، وتأمل، ومزاولة إنسانية، أرضية أو سماوية، حاولت أن أكون قافزًا، مبتعدًا بخطواتي نحو آفاق يصعب رؤيتها إلا في حالات من التجلي العظيمة، وفي مثل تلك اللحظات أنهيتها، وستكون عشقي الأخير بعد العمل الكتابي الذي استعمرني على مدار ثلاثة عقود».
يقول الخناس في مقطع من الرواية: «نولد نحن بلا ذنوب، ثم تتراكم أعمالنا التي نقودها بأنفسنا حسب اجتهاداتنا، بعدها نحصد نتائجها الخيرة أو الشريرة، هذا يحدث كله ونحن على الأرض، في الحياة، حيث يمكن رؤية الفردوس أو الجحيم، حسب أعمالنا.. فما حاجتنا بعد إلى الآخرة؟ هذا مجرد تساؤل أطرحه على نفسي فقط، لا أبغي منه أجابه من أحد. من حقي أن أفكر كإنسان بصوت عالٍ!».
ويعرج منوهًا إلى أصوله التي جاء منها قائلا «أنحدر من أصول أجهل أصلها، أقصد، منابعها، فعالم تقول، قديمة جدًا من أيام آدم عليه السلام! وآخرون يقولون، نشأتنا سومرية، وبالغ البعض قائلًا، جئنا نمرح ونسرح من بلاد الهند كقطيع من البشر لا هم لهم غير التنقل والرحيل كما يحدث اليوم لأبناء جلدتنا من بلاد العرب أجمعين! ثم مررنا بأرض فارس القديمة وبعدها أستقر بنا الحال في بابل وأخيرًا جرت العدوى لنا، فرحلنا إلى أرض الأنبياء والأتقياء، ثم حوربنا من بنو إسرائيل، تم تقتيلنا كفراخ البط هرسًا فنزحنا إلى حران والله أعلم! هذا ما يقال، أنا لست متأكدا من شيء، ولا أنوي الدخول في تفاصيل عدنان وقحطان.. والعهدة بذمة الراوي!».
ومن أجواء الرواية يصف «الخناس» حاله في حالة محاسبة للنفس وجلد للذات «بقيت من دون الآخرين شارد الذهن، غائب العقل لا أعرف كيف أمضي في الحياة حتى التقيت بآدم الذي حاول أن يعلمني مبدأ أساس الحياة، كيف يعتني الإنسان بذاته، يصونها ويكبرها ويرعاها لأنها طريق الخلاص، وكما كان يردده على مسامعي، الثقة بالنفس أول درس من دروس الحياة، ومن يحب ذاته دون المساس بكرامة الآخرين يكون من الناجحين.. ولم تجد كلماته تلك وقتها آذان صاغية عندي، فذهبت أدراج الرياح رغم أهميتها وحاجتي القصوى لها، لأنني كنت أطلب التعلم دون عمل، أن أرى دون أكلف نفسي النظر، أن أكون هكذا مثله بلا جهد فبقيت محلك سر كما يقولون».
وفي سياق آخر من الرواية يقول الراوي واصفًا حياته ومصيره المنتظر: «عشت بلا كفاءة تذكر، لم أكن موهوبًا وطموحاتي لا تتعدى أنفي! أميل كثيرًا للنظر إلى الآخرين وأتحسر، كنت غالبًا ما أهرشهم بلساني ولكن في سري، وأصليهم بنظراتي الحاسدة الجارحة القاتلة دون أن أعي على نفسي، فأهملت طاقتي الإيجابية الخاصة بي وأعطيت كل جهدي للتطلع على الآخرين وهم يدبون على الأرض ويعيشون كما يحلو لهم إلا أنا، كنت كما قلت، أعمى لا أبحث عما بداخلي واكتفيت بالمشاهدة والتأمل وكيف الناس تحيا من دوني! عندها تعطلت آلة التفكير عندي، أصبحت صدِئة لا يمكن الاعتماد عليها بشيء كقطعة حديد مهملة، متروكة في الخلاء، لا أحد يقلبها لتفاهتها ورداءتها ورخصها!».