تبقى سيادة الدول في عالمنا المعاصر نسبية، بصرف النظر عن تصريحات القادة السياسيين. على جميع شعوب المنطقة، سواء تلك التي نجحت في تأسيس دول لها أو تلك التي ما زالت تطمح إلى ذلك، أن تأخذ هذه الملاحظة بعين الاعتبار.
وفي الواقع، يمكننا الجزم، بناء على مراجعة سريعة للتاريخ المعاصر، أن الأنظمة الحاكمة أكثر إدراكا لهذه الحقيقة ومضامينها من شعوبها، بل ومن النخب الفكرية الأكثر شهرة
وتأثيرا على الصعيد الشعبي. لكن فساد هذه الأنظمة وطبيعتها الاستبدادية يمنعانها من التعبير عن هذا الإدراك إلا من خلال اللقاءات والصفقات السرية التي تستغلها الأنظمة للتأقلم مع الواقع ومتغيراته، في حين تصر على التعامل مع الأمور في العلن من منطلق إيديولوجي وعاطفي، وتصر على تربية شعوبها على ثقافة رافضة للمرونة السياسية والواقعية.
لقد ترك الاستعمار نفسه إرثا سلبيا للغاية للمناطق المستعمرة: إنشاء دول قومية جديدة ذات حدود غير واضحة؛ وضع حكومات أو ملكيات صديقة للإمبريالية لحماية المصالح الإمبريالية. لسوء الحظ، أصبح الاستشراق وما بعد الاستعمار حقيقة حتى اليوم حيث يتم تصوير العرب كإرهابيين وأصوليين من قبل هوليوود ووسائل الإعلام.
وهذا يدل على أن الشرق الأوسط الحقيقي وشعبه يظلون إلى حد ما لغزا لمعظم الجمهور الأنجلو أمريكي. يمكن أن يروق للبعض وأن لا يروق للبعض الآخر ما تقوم به موسكو في المنطقة، لكن لا أحد يستطيع إنكار أن سياستها منطقية وأفعالها يمكن التنبؤ بها، ودائماً تؤخذ بالحسبان في هذه الأفعال مصالح شعوب المنطقة. في الوقت نفسه،
فإن موسكو ومقارنة بالولايات المتحدة كانت دائماً الأفضل في قراءة الخريطة السياسية للشرق الأوسط. أن مصر تحركت أفريقياً هذا العام وكان هناك حضور أكبر للاتحاد الأفريقي ما جعل مصر تحقق أهدافها.
أن مصر عندما كانت مع الاتحاد السوفيتي كنا نحصل على سلاح منه فقط، وعندما كانت مع الولايات المتحدة كنا نحصل على سلاح منها أيضاً، ولكن هناك لأول مرة تنوع، فنحن نحصل على المساعدة العسكرية من الولايات المتحدة وأسلحة من الدول الأوروبية والصين والاتحاد السوفيتي، أما عن العائد الثاني، إنه تمثل في التنوع في العلاقات الاقتصادية، كدخول مصر التجمعات الاقتصادية الذي يعود بالنفع بتعميق العلاقات والشراكة.
أن ثمة خريطة جديدة للتحالفات الدولية على أعتاب منطقة الشرق الأوسط، لكن اللافت هذا الموقف الأمريكي العصبي، أن تغير ما سوف يطرأ على موقفها بخصوص عودة الدعم الأمريكي لمصر، لكن بعد فشل التطمينات الأمريكية لمصر في قطع الطريق على تلك العلاقة، تريد أمريكا دق إسفين بين الشعب المصري وروسيا بتأكيدها علي أمر لا يحتاج بالأساس لتأكيد في طريقنا نحو الاستقلال الوطني
سنجد دائما أمريكا، تستخدم ذات الأسلوب العصا والجزرة تنتقد إن تحقيق استقلال القرار الوطني وإن أصبح أمرا لا مجال للعودة عنه، فإنه ليس بالضرورة على حساب العلاقات مع أمريكا والغرب، أن مصر تسعى لتنويع مصادر التسليح حتى لا تسيطر دولة على القرار المصري تحت أية ظروف، وهو ما يمنح القاهرة استقلال القرار كلمة أخرى، يستهدف التحليل لمختلف القراءات حول السياسات الأمريكية في هذه المرحلة التاريخية إلى التقدّم بفهم جديد لسياسات الدول وعلاقاتها ببعضها البعض. فلا يعود الارتباط بالسياسات الأمريكية أو عدمه معياراً أو المعيار في فهم السياسة، أو تحديد المواقف.
وذلك على غير ما كان الحال عليه في مرحلة الحرب الباردة، أو في الأدق في المرحلة التي كانت أمريكا فيها في موقع القوّة والسطوة على حلفائها، أو التابعين لها، وكان الخروج على إرادتها يكلف صاحبه حصاراً، أو انقلاباً عسكرياً، أو عدواناً. وكانت أمريكا متحكمة إلى حد بعيد في النظام الدولي كما في عدد من الأنظمة الإقليمية، ولا سيما النظام الإقليمي العربي-الإسلامي المسمّى زوراً بالشرق الأوسط.
ولكي نتأكد من صحة الموضوعة التي تفرق بين علاقة أمريكا بأتباعها أو بالدول الأخرى في المرحلة السابقة من جهة وما يقوم الآن من علاقات دولية من جهة أخرى، يكفي أن نقارن ردود الفعل الأمريكية عندما عقد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر صفقة الأسلحة التشيكية، بردود فعلها إزاء صفقات الأسلحة التي يعقدها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع روسيا والصين وفرنسا.
هنا يظهر بوضوح الفارق الذي يُراد الوصول إليه في فهم وصف سياسة مستقلة أو سياسة غير نابعة من سياسة أمريكية بين مرحلتين. ففي المرحلة السابقة كانت السياسة المستقلة تعني حرباً من جانب أمريكا عليها فيما لم يعد الأمر كذلك الآن إذ أصبحت السياسة المستقلة للدول عموماً سمة عامّة، لا تحمل صفة التحرّر أو الثورية، ولا تقود إلى “حرب” مع أمريكا أو من قِبَل أمريكا بل تستمر العلاقات إيجابية بينها وبين أمريكا. ولهذا لا يجب أن يُنظر إليها أو فهمها وفقاً للمقاييس السابقة.
ومن ثم فإن وصفها بالاستقلالية عن أمريكا هو فقط للتخلص من المفاهيم التقليدية للعلاقات الدولية، والتي كانت سائدة في السابق من جهة كما من أجل فهم أكثر مطابقة للواقع بالنسبة إلى العلاقات الدولية الجارية في المرحلة الراهنة، من جهة أخرى. أما تفسير ذلك فيرجع إلى التغيّر في موازين القوى، وفي مقدّمته، فقدان أمريكا إلى حد بعيد، أو ملحوظ، لموقع السيطرة على النظام الدولي والأنظمة الإقليمية،
وكذلك فقدانها موقعها السابق في السيطرة على حلفائها والدول التابعة لها. كما فقدانها القدرة على حمايتهم. فالمطلوب أن يختلف تعاملنا اليوم مع مواقف الدول، لا سيما التي كانت محسوبة على أمريكا أو داخلة في إطار التبعية لها أو لأحلافها عما كان عليه. فنقوّمها إيجاباً أو سلباً باعتبارها سياسات مسؤولة عنها تلك الدول.
وهو ما قد يكون مُداناً أو موصوفاً بالعدوانية أو بالإجرام أو بالحماقة أو حتى بالسرطانية. وهذا يكفي لمعارضته ومحاربته دون حاجة إلى أن يتهم بأنه سياسة أمريكية حتى تسوّغ معارضته أو مقاومته أو قتاله، أو إدانته.
على أن فهم السياسات والعلاقات الدولية على ضوء ما هو قائم واقعياً لا يهدف إلى الدقة، والأمانة، والصحة في تقدير الموقف فحسب، وإنما يهدف إلى إدارة الصراع إدارة صحيحة ضدّه أيضاً. وهو طريق النجاح المشروط بدقة تقدير الموقف.
لا يتم تعريف الشرق الأوسط، أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، بالعلاقات التجارية، أو التفاعل الدبلوماسي، أو المُنظمات الإقليمية وحسب، بل بالقوة الصارمة والقدرة العسكرية. هكذا كان الحال في تاريخ المنطقة الحديث، وسيبقى كذلك في المستقبل المنظور. لكن، مع ذلك، لم يشهد الشرق الأوسط منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل قرن من الزمان ما يشهده الآن من تشنّج واضطراب إقليمي وصراع داخلي.
في غمرة هذا التداعي في النظام الإقليمي، تبدو الحروب الأهلية المتواصلة، وبخاصة في سورية واليمن، وكذلك في ليبيا والعراق، قضايا مستعصية على الحل. وتُعتبر الصراعات الإقليمية على النفوذ، مثل المنافسة بين المملكة العربية السعودية وإيران، على نطاق واسع، من العوامل التي تزيد الأمر تعقيداً.
ومع أن هذه المنافسات عظيمة الأهمية بالفعل، إلا أن الديناميكيات الأوسع قد أطالت أمد هذه النزاعات وجعلتها أكثر قبحاً.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان