خرجت من منزل سعادتي يوما متجهة نحو صحراء خيالي ومعي قطيع أحزاني أسوقه بجهد وتعب لعلي أجد ما أسد به رمق هذه الأحزان من فرح قريب أسقيها منه أو دعوة مجابة ترفع عن هذا القطيع مآسيه .
وبينما أنا في حيرتي هذه أتخبط في ظلمات الجهل وإذا بي أشاهد من بعيد واحة مليئة بالماء فأخذت أسرع الخطى نحوها على أمل ألا تكون سرابا ، فإذا بها واحة حقيقية لم أرى أجمل منها في حياتي حتى اقتربت أكثر نظرت في مائها فإذا هو كوثر عذب تلمع قطراته كأنها حبات اللؤلؤ وتحيط بها أرض واسعة خضراء مليئة بالزهور ذات الألوان الجميلة المتنوعة والروائح الجذابة وعصافير من كل الألوان والأشكال
تغرد وتطير وتدور وتسّبح الله وتهلله لكن جميع ذلك لم يلفت انتباهي حيث أخذ مني العطش كل مأخذ .. فأخذت أسرع الخطى وأجر خلفي قطيعي متوجهة نحو الواحة لأشرب وأبرد غليلي وهنا استوقفني ما رأيت
إذ لفت انتباهي شيخ هرم يجلس بجانب غدير الماء ، فقلت له بالله عليك يا شيخ قلي أين أنا ؟؟ ما هذه المناظر الجميلة التي لم أرى لها مثيل في حياتي ، فتبسم الشيخ وكان وقور الطلعة بهيها وكنت قد نسيت عطشي لمرآه فقال :
أنت في رحاب الإيمان يا أخي ، ولكن ما الذي جاء بك إلى هنا ؟؟.. فقلت مشيرا إلى قطيعي بأسى .. هذا ما أتى بي فقد كنت أبحث لهذه الأحزان ما تسد رمقها به..
فقال ما رأيك لو تتركها عندي وأنا أتكفل بها ؟؟ ..
فقلت: ولكن أنت شيخ كبير أو يمكنك ذلك ؟؟.. قال : نعم فأنا أملك من الجلد ما لا يتحمله بشر وهنا شعرت بسعادة كبيرة تغمرني وكأني أزحت حملا ثقيلا عن ظهري وسلمته القطيع واقتربت من الغدير لأشرب
ولكن الشيخ قال محذرا : إياك أن تقترب من هذا الغدير فلا يمكنك الشرب منه ، وهنا تجمدت في مكاني كمن ألقم حجرا وبعدها قلت :
يا شيخ ألم تساعدني منذ قليل وتأخذ بأحزاني بعيدا عني فكيف بي الآن أراك تمنعني من هذا الغدير وقد أخذ مني العطش كل مأخذ ؟
فنظر ألي نظرة رحيمة تفيض عطفا وحنانا وكأنه رق لحالي وقال بعد لحظات من الصمت : كان بودي أن أسقيك لكن ما تري من نعم هنا هي ليست لي ولا أستطيع أن أسمح لك بالشرب من هذا الغدير .
وهنا شعرت بحزن كبير فأدرت ظهري وتوجهت راجعا من حيث أتيت ولكني تساءلت في نفسي بتلك اللحظة من يكون هذا الشيخ يا ترى ؟؟ ومنا استدرت ناحيته وسألته بالله عليك يا شيخ من تكون ؟ فأطرق ملياً وقال أنا الصبر لقد صبرت فتكفلت برفع أحزانك وهمومك عنك فقلت ومن يكون صاحب هذا المكان إن لم تكن أنت ؟ فقال أنه اليقين،
فلا ينال أحد من هذا كله ، والله ولا يذوق حلاوة الإيمان إلا من كان من المتقين واصل إلا درجة اليقين فقلت له وكيف أصل إلا هذا الذي تدعوه اليقين لأطلب منه الأذن في أن أشرب من هذا الغدير فأتظلل تحت هذه الأشجار وأستنشق من عبير هذه الأزهار وأستمع إلى هذه الأطيار فقال عليك يا بنيي أولا (( أن تجعل من نفسك إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى إنسان تشارك الناس همومهم وغمومهم
إنسان تنظر إلى مصالح الآخرين ومصلحتها بعين واحدة… إنسان تأبى أن تحصل على راحتها على حساب الآخرين….إنسان تتمتع برؤية فكرية واسعة متنزهة عن الإيذاء والاعتداء والنظرات الضيقة والانتقامات وتشكل مع باقي أبناء جنسك مجتمعاً مفعماً بالخير والبركة)) عندها فقط يا أخي ستجد من يزيل الحجب عن قلبك ويوصلك إلى من تريد…
أعني اليقين. فشكرته شكرا عظيما حيث وضع قدمي في أول الطريق وما علي الآن سوى أن أشق طريقي بعزم وثبات وأسأل المولى التوفيق….
ظلالَ الطيورِ المهاجرةِ
انسابتْ الفِكَرُ كالطوفانِ، وعلا صوتها فوقَ أصواتِ الموجِ المنسابِ برتابةٍ على الشاطئ، و لكنَ الموجةً عاتيةً كانت تنتهي حيث جذع شجرٍة كبيرٍ خاوٍ استلقى منهكاً على الرملِ الأصفرِ، و قدْ بدأ يغرقُ رويداً رويدا.
أحستْ بأنفاسِ الجذعِ التي بدأت تثقلْ و هي تُحدثها و تقولُ: نعمْ كنتُ ذاتَ يومٍ شجرةً وارفةَ الظلاِل ،خضراءَ الورقِ، كثيرةَ الثمرِ، و ذكيةَ العطرِ، تعلقَ قلبي بغيمةٍ سكنتْ سمائي، أظلتني بالنهارِ، و آنستْ حلكةَ ليلي، رأيتُ فيها أقواسَ القزحِ في النهاراتِ الماطرةِ، و راقبتُ فيها ظلالَ الطيورِ المهاجرةِ في الخريفِ، و صوَر انعكاسات المروجِ الخضرِ في الربيعِ، و حجبتْ عني قسوةَ و ظلمَ شمسِ الصيفِ.
لمْ أدرِ كمْ فصلٍ مضى…. و لكنْ الغيمةَ بدأت تتلاشى، و بدأتْ أوراقي تتساقطْ ، و ليسْ الوقتُ خريفاً، و الشقوقُ تزدادُ على أغصاني و جذعي .. و لأولِ مرةٍ .. أنظُر حولي .. أولُ مرةٍ أنظرُ الى الأرضِ، لأدركَ أني في صحراءٍ ليس بها سواي .. و غيرَ رمالٍ صفرٍ … ليس حولي منْ أحدٍ. رفعتُ رأسي لأسألَ غيمتي كلَ التساؤلاتِ التي كادتْ تكونُ أثقلَ و أكثرَ من رملِ الصحراء .. لأدركَ أنه لا غيمَ في السماءِ …
و أنْ غيمتي ….. وهمٌ و محضُ سرابٍ من خيالي . أفقتُ على صحراءٍ أنكرتني ، و صفعتني بريحها و غضبِ رمالها و اقتلعتني من الجذورِ .. قذفتني حيثُ لم يصلْ خيالي يوماً.
و ها أنا هنا على شطِ بحرٍ عاتٍ، و أحلمُ أنْ أستريح ..و أتساءلُ: أ.. البحر أرحم أم الصحراءَ، أم كلاهما قدري .. و كلاهما سواء؟ أهو الدمعُ الذي حرقَ و جنتيها … أمْ رذاذُ ملحِ البحرِ الذي رشقتهُ تلكَ الموجةِ العاتيةِ التي سحبتْ الجذعَ إلى البحرِ الكبيرِ الصاخبِ؟
رفعتْ رأسها للسماءِ تأملُ أن تراها …. أو أن تترآها … و لكنَ السماءَ خلتْ من أيِّ غيمة، و تساءلت: ترى كمْ فصلٍ في حياةِ المرءِ منا ؟-
و إذْ بموجةٍ غاضبةٍ تهزها و تكادْ تسحبها عنوةً الى عمق اليم بعيداً عن الشاطئ، ولكن فروعها الصلبة التي غاصتْ في الرملِ المغمورِ بالماءِ أنقذتها- و صوتٌ قادمٌ ليست تدري أهو البحر أم الريح يجيبها : قدرُ المرءِ أنْ يعيشَ أربعةَ فصولٍ فقط.. المتوقعَ والمعلومَ والمأمولَ والمجهول.
الربيع الذي داء قبل الأوان الربيع الذي جاء قبل الأوان دس في ساعتي وردة ومضى ومضت ساعتانْ وأنا غارق في المكانِ وعطرك يسرق من المكانْ
الربيع الذي مر بي لم يسألني عن شيء. ولم أسأله. من عادتي أن أحمل ربيعي في جسدي وأتجول في السفوح. الربيع أقصر الفصول لكنني في ظلك أعيش ربيعا دائما. تنتابني الظهيرة كلما مرت هشاشتك في البال.
مازالت الطيور المهاجرة في حيرة من الوقت. مازالت الأزهار البرية مشرئبه في الريح. قامتك التي لا يصمد لها الضوء ستميل في الظل نحو المغيب. وأنا الشاهد الوحيد
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان