النيل بالنسبة للمصريين هو أبجدية الحياة.. نشأنا على أن مصر هبته، كما قال هيرودت.. يشير كتاب الموتى إلى أن الفراعنة عند موتهم كانوا يتبرأون من أشياء كثيرة، أولها عدم تلويث النهر العظيم.. خلده الشعراء والملحنون.. غنت أم كلثوم قصيدة عنه من أشعار شوقى.. وقدم عبدالوهاب لأمير الشعراء أغنية «النيل نجاشى» فى أول نظم بالعامية.. غير أن أعظم ما قيل فيه كان لمحمود حسن إسماعيل وهى «مسافر زاده الخيال».. عجيب أمره كل من رآه استلهمه حتى الأجانب.
الآن هناك محاولة لاختطاف رئة المصريين.. عملية قرصنة ساهمت فيها بعض الدول العربية وخططت لها إسرائيل وتنفذها إثيوبيا.. الحقيقة أن الأطماع قديمة.. طرح السادات فكرة مشروع «ترعة السلام» لنقل المياه لإسرائيل.. هاج الرأى العام بمصر.. فى إحدى السفريات الخارجية سألت مبارك عن تصريح لزئيفى أوتنبيرج، رئيس هيئة مياه طبرية الأسبق، بأن إسرائيل ستحارب من أجل المياه إذا زاد النقص عندهم.. رد مبارك بهدوء «دعهم يجربون».. قلت يا فندم ألم يعدهم السادات بإيصال مياه النيل إليهم..
رد ضاحكاً «السادات كان حاوى».. كنت وقتها نائبًا للرئيس وسألته عن حقيقة الأمر فقال «دى فواتح شهية» لإتمام السلام.. ثم أنا فلاح وعارف إن صحراء النقب جرداء لو نقلنا النيل كله هناك لن تروى، وأضاف مبارك لو كان الموضوع ينفع كانوا نقلوا مياه الليطانى إلى هناك أثناء احتلال جنوب لبنان 25 عاماً..
الحقيقة أن إسرائيل لم تتوقف عن التخطيط للإضرار بمصر من خلال إثارة المشاكل بين دول حوض النيل والقاهرة والعمل على شيطنة مصر فى العقل الجمعى للشعوب الإفريقية.. وكتب شيمون بيريز فى كتابه «الشرق الأوسط الكبير» أن إفريقيا لن تنهض وتحل مشكلة المياه إلا بالتكنولوجيا الإسرائيلية..
تدهورت علاقات مصر بإثيوبيا عقب زيارة الوفد الشعبى المصرى لأديس أبابا بعد 2011 تأييدًا لزيناوى، رئيس الوزراء الأسبق فى إكمال السد.. ثم جاء الإخوان للحكم وأذيع للعالم كله اجتماع مرسى مع النخبة المصرية، وهى تحضه على ضرب المشروع.. ولا يعلم كثيرون أن هيلى ماريام ديسالين، رئيس وزراء إثيوبيا السابق، عمل مهندسا مدنيا لشركة «سوليل» الإسرائيلية..
من ثم فإننى لم أتعجب وأنا أتابع مواقع إسرائيلية تؤكد أن إثيوبيا سترفض المقترح المصرى بشأن سد النهضة، لأنه يمس السيادة الإثيوبية، ولا يمكن أن يكون السد الإثيوبى احتياطياً للسد العالى المصرى.. بعد 24 ساعة كرر وزير الرى والمياه الإثيوبى ما جاء فى الميديا اليهودية، مؤكداً أن بلاده لا يمكنها قبول مقترحات مصر لأنها تنتهك سيادة إثيوبيا فى إدارة عمليات التدفق ومراحل ملء السد، وتتنافى مع حقوقها فى الاستخدام العادل لموارد النيل..
وبعيداً عن أن القانون الدولى فى صفنا، وأننا أخطأنا عندما أكدنا أننا سنروى مليون فدان من المياه الجوفية، وأن هناك نهراً يمتد من الجنوب للشمال تحت الأرض أكبر من النيل.. كل هذه التصريحات صبت فى مصلحة إثيوبيا، التى تؤكد الآن للعالم كله أن مصر لديها فائض مائى كبير، والنيل يهدر إلى البحر، وعليها أن توافق على سد النهضة..
نحتاج فريقًا قانونيًا وفنيًا غير حكومى للتفاوض على غرار طابا، ويستند إلى أوراق كثيرة فى أيدينا ليس من بينها الحل العسكرى الآن..
1. قانون الأمم المتحدة للأنهار المتشاطئة (عليها أكثر من دولتين) يحظر إقامة سدود تلحق ضرراً بالمنشآت القائمة.. وبالتالى إثيوبيا لا يمكنها الإضرار بالسد العالى..
2. نفس القانون يحظر إلحاق السد الجديد الضرر بالدول التالية لدولة المنبع، التى تقيم السد (مصر والسودان).. ونظرًا لأن تدفق النيل الأزرق فى المتوسط 50 مليار متر مكعب سنوياً، فإن مصر لم تخطئ – كما يقول العالم د. نادر نور الدين – عندما طالبت بألا يقل تدفق النيل الأزرق أثناء الملء الأول لسد النهضة عن 40 مليار متر، تاركة لإثيوبيا 10 مليارات خلافًا للقانون.. وستعوض مصر بقية حصتها من روافد النيل الأخرى (عطبرة والسوبات والأبيض، وهى حوالى 35 مليار متر مكعب).. وبهذا لا تختل حصتا مصر والسودان (55.5 مليار متر- 18.5 مليار متر مكعب) على التوالى..
3. إثيوبيا أخطأت عندما زعمت أن مصر تتدخل فى شؤونها السيادية (كنصيحة إسرائيل)، والحقيقة أننا لا نتحدث عن نهر إثيوبى داخل حدودها الجغرافية، ولكن عن نهر دولى مشترك عابر للحدود.. فأى نهر مائى مشترك تفرض عليه سيادة مشتركة وليس سيادة مطلقة..
ويبقى التفكير فى الحلول.. أبسطها وأسرعها جلسة عاجلة للبرلمان المصرى يقدم فيها أول استجواب للحكومة منذ بداية الدورة التشريعية عن السد ويرفض اتفاقية إعلان المبادئ وما ترتب عليها.. ثم علينا تبصير الاتحاد الأوروبى بأنه سيكون المتضرر الأول فى إقامة السد لنزوح ملايين الفلاحين المصريين والسودانيين إليه.. علاقاتنا الدولية على المحك لاستصدار قرار من مجلس الأمن لمنع إثيوبيا من إقامة السد..
دعونا قبل هذا كله نسأل أنفسنا سؤالين: لماذا نسى بعض اللبنانيين والسودانيين والليبيين والأتراك وأهل الخليج مشاكلهم ويركزون على حدوث فوضى فى مصر.. ثم ألسنا أصحاب مصلحة فى وطن مستقر يقدم أبناؤه نصائح للحاكم من هنا وليس من الخارج بدون أى مصالح أو أجندات أو تمويل.. وفقكم الله.