رغم مرور أسبوع على القنبلة التي فجرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الاستيلاء على غزة وتهجير أهلها فما زالت تصريحاته تتفاعل على مستوى العالم، وتكشف مخبوءات السياسة والسياسيين، وتفرض على أمتنا ضرورة اتخاذ موقف حاسم وموحد، يتجاوز الأقوال إلى الأفعال، ويقطع الطريق على الانتهازيين المذبذبين، الذين يتعاملون بوجوه متعددة، ويجيدون التآمر فى الحجرات المغلقة، وإلا فسوف تكون العواقب وخيمة على الجميع، هذا رجل صريح حد الوقاحة والفجور، ويجب أن تصله رسالتنا الجماعية واضحة جلية، حتى لا يصور له خياله أن الكلام الدبلوماسي الناعم يعني موافقة ضمنية على ما يقول، أو يحمل حبا وانبهارا بأفكاره الجهنمية، فيأخذه الخيال لما هو أبعد.
كثيرا ما تتعرض الأمم في تاريخها إلى لحظات اختبار مفصلية، تحتاج فيها إلى قرارات قاطعة تحدد اتجاه سفينتها، هذه القرارات قد تكون كلفتها عالية، لكنها تمنع شرورا كثيرة يمكن أن تحدث لو لم تتخذ في توقيتها الصحيح، وعلى قدر قوة الفعل الذي تتصدى له، فليس من المنطق مواجهة الثور الهائج بالتزام الهدوء وادعاء الحكمة، وإنما لابد من إيقاظ الفطنة واستدعاء الشجاعة وإبداء العزيمة حتى يرتدع الثور ويهدأ، ويعرف إمكانات خصمه، فيكبح جماح هيجانه.
لم يسبق أن سمع المجتمع الدولي شيئا يشبه نوايا ترامب التي قالها عن تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، والسطو على غزة وامتلاكها، وتحويلها إلى منتجع سياحي عالمي ومشروع ترفيهي دولي يوفر الأمن والحماية للإسرائيليين، ولم يخطر ببال أحد أن رئيس أكبر دولة في العالم يستهين بالقوانين والقرارات والمواثيق والشرعية الدولية، ويدعو بكل وقاحة إلى محو شعب قاوم من أجل استقلاله وحريته، وأدهش العالم بصموده في مواجهة حرب الإبادة لأكثر من 15 شهرا.
كان ترامب يطرح استراتيجية التهجير بنبرة فوقية استعمارية استعلائية، تعجب لها نتنياهو نفسه الواقف إلى جواره، لذلك كان يجب أن يأتي رد الفعل سريعا ومباشرا من العرب والمسلمين جميعا، يقولون له بصوت واحد لا لبس فيه: “نرفض خطتك ومقترحاتك، ولن نقبل بتهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، أو أي بلد آخر، نحن جاهزون بالأموال العربية لتعمير غزة العربية الفلسطينية، وليس غزة الإسرائيلية أو الأمريكية، لسنا في حاجة إلى أموالكم، لكننا أيضا لن نمول صفقات الأسلحة الباهظة الموجهة لإسرائيل”.
لقد خرجت بيانات قوية رافضة لخطة ترامب من مصر والأردن والسعودية وبعض الدول الأخرى، لكن هناك من تجاهل الأمر كأنه لا يخصه، وهناك من ينتظر للصيد في الماء العكر، وما زال ترامب يراوغ، يقول كلاما ثم ينقضه، ويشيع أنه عرض خطته على زعماء آخرين في الشرق الأوسط فأيدوه وأبدوا استعدادا للتعامل معه، لذلك يجب أن يكون الصوت العربي والإسلامي شاملا وموحدا وصريحا، ولعل قرارات القمة العربية القادمة في 27 فبراير الحالي تأتي على قدر التحدي، فالخطب جلل، ولو مرت جريمة التهجير فستتبعها جرائم أشد وأنكى، وجراب الساحر الأمريكي لايخلو من العجائب.
لنتذكر أن خطة ترامب بشأن التهجير والسطو على غزة جاءت عقب تصريحات كثيرة أطلقها كبالونات اختبار عن إمكانية النظر في ضم الضفة الغربية لإسرائيل بعد ثلاثة أو أربعة أسابيع، وتأكيده الدائم على أن مساحة إسرائيل صغيرة جدا بالقياس إلى مساحات دول أخرى في الشرق الأوسط، وبالقياس أيضا إلى إنجازات إسرائيل العلمية والحضارية وإنجازات جيشها، وهو ما يعني صراحة التمهيد لتوسيع مساحة إسرائيل على حساب جيرانها العرب، وفرض هيمنتها لتكون هي مركز الشرق الأوسط، لا كدولة بين الدول، وإنما دولة فوق الدول، وهذه التصريحات الترامبية الفجة هي التي أعطت لنتنياهو الجرأة كي يتحدث عن إنشاء دولة فلسطينية في السعودية.
ترامب لايخفي استراتيجياته وانحيازاته ومخططاته مهما بلغ شططها، وقد طرح خطنه بشأن امتلاك غزة متزامنة مع تهديدات باحتلال كندا وجرينلاند وقناة بنما، والرجل جاد لايمزح، ومقتنع جدا بصواب مايقول ويفعل، وله مبررات عنصرية لا يقبلها عقل سوي، وقد صدم حلفاءه قبل أعدائه بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، انتقاما من قضاتها الذين تجرأوا وأصدروا أمرا بتوقيف نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت لمحاكمتهما بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب في غزة، وكتبت صحيفة “الجارديان” البريطانية في افتتاحيتها يوم السبت الماضي تعليقا على ذلك قالت فيه إن “ترامب يتصرف وفق شريعة الغاب، ويهيل التراب على الشرعية الدولية، ويتبنى قناعات بأن الأقوى هو صاحب الحق دائما، فالوحوش الكبيرة جائعة وعلى البقية الإذعان أو الهروب”.
غير أننا نوقن تماما بأن مخططات ترامب ليست قدرا إلهيا، بل يجب مقاومتها ودحضها بقوة، مثلما تصدت كل من كندا والمكسيك لقراراته بزيادة الجمارك على صادراتهما، وهددتاه بالتعامل بالمثل، وأجبرتاه على تأجيل هذه الزيادة، والتأجيل هنا مجرد تحسين لفظي للتراجع وحماية ماء الوجه لا أكثر.
نحن أيضا نستطيع التصدي لأطماع ترمب واستراتيجياته، رغم فوارق القوة والقدرات، ويكفينا أن العالم كله يقف إلى جانبنا، ويؤيد حق الفلسطينيين ومصر والأردن في رفض التهجير، وهو حق مدعوم بالشرعية الدولية، ولم يهلل لهذا التهجير إلا اليمين الإسرائيلي الموتور، الذي يعمل ترامب لصالحه، بينما خرجت أصوات في إسرائيل تهزأ من الاقتراح وتؤكد استحالة تنفيذه، وأصوات أخرى تندد بجرأة ترامب على مطالبة إسرائيل بتسليم غزة إليه بعد أن حاربت وضحت بأبنائها.
لقد خدع ترامب الكثيرين داخل أمريكا وخارجها بالحديث عن إيقاف الحرب، ورغبته في الحصول على جائزة نوبل للسلام، لكن الواضح أنه يجهل تاريخ النضال الفلسطيني، ولا يعرف شيئا عن قيمة إنسانية راقية اسمها “مقاومة الاحتلال”، وهذا ما دفعه للاستهانة بهذا الشعب البطل، وتجاهل إرادته، وإطلاق الدعوة الخبيثة لتهجيره، فوقع في شر أعماله، وصار مهددا بالخروج من رئاسته مصنفا كمجرم حرب، وليس بحامل لجائزة نوبل.