تتردد تسريبات كثيرة عما يدور وراء الكواليس بشأن المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، والضغوط التي تمارسها أمريكا وإسرائيل على الجانب الفلسطيني والعربي للقبول بفكرة نزع سلاح المقاومة وتفكيك هيكلها السياسي والعسكري، وإخراج رجالها من القطاع، والإبقاء على وجود عسكري إسرائيلي في مناطق إستراتيجية مثل محور فيلادلفيا، وتشكيل إدارة جديدة لاتخضع لفصائل المقاومة ولا للسلطة الفلسطينية، فلا مجال لـ (حماسستان ولا فتحستان) على حد تعبير نتنياهو، ويكون البديل إدارة تحمل هوية غير فلسطينية، حتى يسهل التخلص منها بعد ذلك وضم القطاع بالكامل إلى الدولة اليهودية، ضمن خطة التوسع التي يعمل عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
والخطر الأكبر على مستقبل غزة ومستقبل القضية الفلسطينية برمتها لا يأتي من تلك الفخاخ الصهيونية، التي تحمل شروط نتنياهو، وإنما من إمكانية تبني الجانب الفلسطيني والعربي لها، أو لبعضها، ظنا بأن في ذلك إسراع الخطى نحو إنهاء الحرب وإنجاز الإعمار وإعادة النازحين إلى ديارهم، مع أن هذه الفخاخ (الشروط) تعني صراحة التسليم لإسرائيل بانتصار لم تحققه بالسلاح، وتمنحها مكاسب لم تحصل عليه بالحرب، وتضع غزة كليا تحت الهيمنة الإسرائيلية، إن شاءت أبقت عليها محاصرة مهدمة، وإن شاءت أهدتها، أو باعتها للولايات المتحدة، كي ينفذ فيها ترامب مشروعه العقاري الكبير، ويحولها إلى (ريفييرا) الشرق الأوسط، وهو الذي قال بكل فجور إن “إسرائيل وحدها التي لها الحق في أن تقرر المرحلة المقبلة في غزة بالتشاور معي”.
لا يهتم ترامب إلا بإسرائيل ومصالحها، وقطع كل صلة له بكلام قديم عن السلام وإنهاء الحروب، ولم يعد لديه وقت للتفكير في محنة الشعب الفلسطيني، أو أي شعب آخر، وهو الآن يتخلى عن أوكرانيا حليفة الغرب، ويهرول نحو صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ربما تكون غزة فيها مقابل أوكرانيا، وبقدر ما يتنازل بوتين في ملف غزة يتنازل ترامب في ملف أوكرانيا، فهو لايتورع عن فعل أي شيء يكون في خدمة إسرائيل، وكلما حقق لها من مكاسب إقليمية طلب من أجلها المزيد، حتى يتسنى تكريس تفوقها وإطلاق يدها في أرض فلسطين التاريخية، وتهيئة المنطقة بأسرها لوضع إستراتيجي جديد تكون فيه هي مصدر القيادة والأمن والحماية والشرعية لمن حولها، ولو سلم العرب لها بذلك فسوف يحكمون على أنفسهم بالخروج من التاريخ، مثلما فعل الهنود الحمر وملوك الطوائف في الأندلس.
ولا يخفى على أحد أن أية استجابة لشروط نتنياهو سوف توقع العرب في فخاخ خطيرة، لعل أولها وأهمها السقوط إلى مزيد من التفكك والانقسام والتشرذم وتضارب المواقف، أما إذا صدقت النيات وتوافرت الإرادة والعزيمة لتجاوزهذه الفخاخ الماكرة بتوافق جماعي فسيكون عليهم قبل كل شيء إعادة النظر في مسلمات صنعت بعناية في البيت الأبيض، فمن الخطأ أن يفكروا بأن سلاح المقاومة هو سبب طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 وليس الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه العدوانية ضد الشعب الفلسطيني ومقدساته، ومن العبث أن يتساهلوا مع فكرة نزع سلاح المقاومة قبل إقامة الدولة الفلسطينية، أو تسليم الأسرى قبل الاتفاق على إنهاء الحرب وانسحاب جيش الاحتلال، لأن هذا يعني ببساطة تسليم ورقة الضغط الوحيدة الباقية في أيديهم، ويعني أيضا اعترافهم بانتصار إسرائيل وهزيمة المقاومة، وهو مالا يعترف به الإسرائيليون أنفسهم.
تقول صحيفة (هاآرتس) الإسرائيلية في افتتاحيتها يوم الجمعة الماضية: “إن الطريق الوحيد لإعادة بقية الرهائن هو الاستمرار في الاتفاق والامتثال لبنوده الواضحة، عبر وقف الحرب وسحب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، لاسبيل آخر غير ذلك، ولا سيما تلك العهود الكاذبة المتعلقة بتحقيق انتصار كامل أو غير ذلك من حملات الدعاية البغيضة التي دأب عليها مكتب رئيس الوزراء من أجل إفشال صفقة تبادل الرهائن طوال شهور الحرب وإلى الآن، ولذلك يتعين على نتنياهو أن يتم الصفقة ويعيد جميع الرهائن، وعلى الشعب الإسرائيلي أن يمارس ضغوطا لضمان ألا يخون رئيس الحكومة واجبه”.
هناك تيار عريض ومؤثر في إسرائيل يرى أن نتنياهو وأنصاره من اليمين المتطرف يأخذون الدولة اليهودية إلى طموحات غير واقعية لن تقدر عليها، وسيكون ثمنها باهظا، ويعرقلون الوصول إلى المرحلة الثانية من اتفاق إنهاء الحرب في غزة، ويضعون شروطا تعجيزية بين الحين والآخر للتهرب من استحقاقات الصفقة التي لم تكن في مصلحتهم، وهذا التيار يضم عائلات الأسرى والمتعاطفين معهم والأحزاب التي لا تنتمي إلى اليمين الديني المتشدد، ولو انضم الصوت الفلسطيني والعربي إلى هذه الأصوات الرافضة لشروط الإذعان، والمطالبة بالتزام البنود الواردة في صيغة الاتفاق التي قدمها الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن إلى مجلس الأمن ووافقت عليها كل الأطراف، فسوف يجد نتنياهو نفسه مضطرا إلى القبول بما تم الاتفاق عليه.
قد يحتاج الأمر إلى قدر أكبر من الصمود والثبات والثقة في إنجازات المقاومة التي أبدعت في ميدان الحرب، ومازالت تبدع في خطوات التفاوض، واستطاعت أن تفقأ عيون نتنياهو وأنصاره بمشاهد تسليم الأسرى، وتذل كبرياءهم، خاصة حين قبل أحد أسراهم المفرج عنهم رأس اثنين من قادة القسام أمام كاميرات الإعلام، مما أثار حفيظة نتنياهو، فاعترف بأن هذه المشاهد تهين دولة إسرائيل، ولذلك فإنه يسعى إلى الهروب للأمام بالتهديد والوعيد والمماطلة في إجراءات إتمام الصفقة، وهي لعبة مكشوفة يجب عدم الرضوخ لها.
عندما يتحدث نتنياهو عن (إرهاب) المقاومة يجب أن نحدثه عن الاحتلال والاستيطان وسرقة المنازل وانتهاك المقدسات، وعندما يدين هجوم السابع من أكتوبر يجب أن نذكره بجرائم جيشه والاغتيالات وحرب الإبادة الجماعية وجرائم التطهير العرقي ومحاكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، وعندما يطالب بنزع سلاح المقاومة يجب أن نطالبه بالدولة الفلسطينية أولا، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.