شعور الانتماء والمواطنة له تأثير كبير على الصحة النفسية للأفراد، حيث يعزز الدعم الاجتماعي الذي يمكن أن يكون مفيدًا للتعامل مع التحديات اليومية والضغوط النفسية، ويساعد في تقليل الوحدة والعزلة الاجتماعية، ويعزز الثقة بالنفس ويساعد على تعزيز الاعتزاز بالذات، ويقلل من مستويات الضغط والقلق، ويوفر للأفراد شعورًا بالهدف والمعنى في حياتهم، مما يؤدي لبناء شعور بالسعادة والرضا النفسي في الحياة اليومية.
الانتماء إلى مجموعة أو مجتمع يحافظ على علاقات اجتماعية قوية وصحية، وتلقي الدعم العاطفي والمعنوي من الأصدقاء والعائلة يعزز الانتماء إلى المجتمع، وكذلك المشاركة في الأنشطة والأحداث المجتمعية وتقديم المساهمات، والتفاعل بشكل إيجابي مع أفراد المجتمع وبناء علاقات صحية، والشعور بأنك مقبول ومحبوب ضمن المجتمع، ووجود قيم وهدف مشترك مع أفراد المجتمع، والشعور بالأمان والثقة داخل المجتمع، والتعامل بالاحترام والتقدير مع الآخرين؛ فجميع ذلك يعزز الشعور بالانتماء والاندماج.
الانتماء ليس مجرد كلمة، إنه شعور عميق بالتضامن والتفاهم والترابط بين أفراد المجتمع، والمواطنة ليست مجرد حق، بل هي واجب يجب أن يؤديه كل فرد تجاه مجتمعه، الانتماء يجعل الفرد يشعر بأنه جزء لا يتجزأ من شيء أكبر منه، وهو جزء من قصة أكبر تتكون من أفراد المجتمع، وعندما يشعر الإنسان بالانتماء الحقيقي لمجتمعه، يصبح مستعدًا للعمل من أجل تحقيق تقدمه وازدهاره، والوطن ليس مجرد قطعة من الأرض، بل هو الشعور بالارتباط العميق بالإنسانية والتاريخ والهوية، وكل شخص يجب أن يعرف أن مسؤوليته تجاه المجتمع ليست مجرد واجب، بل هي جزء من هويته وشخصيته.
تقوم المواطنة كمسألة اعتبارية في مفهومها الحديث على وصفها كعملية تفاعلية قائمة على تبادل الحقوق والواجبات، وهي تصف بالشكل الخاص علاقة المواطن بوطنه، بينما ترتبط قوة هذه العلاقة أو ضعفها نسبة لما يتمتع به من الحقوق وبالتالي بما يترتب على تلك الاستجابة من الواجبات.
تعد المواطنة الصالحة من أسمى الأهداف العليا للمجتمعات الإنسانية على اختلاف مدارسها الفكرية ومنابعها الفلسفية، لما تعكسه من آثار إيجابية على جميع أهداف المجتمعات. فالمواطنة من القضايا التي تفرض نفسها بقوة عند معالجة أي بُعد من أبعاد التنمية الإنسانية ومشاريع الإصلاح والتطوير الشاملة بصفة عامة. ومن ثم فإن هناك نوعًا من الارتباط بين المواطنة والتنمية، وهو ما تقوم هذه الورقة بمحاولة عرض وتحليل أبعاد تلك العلاقة وأهميتها.
إن المواطنة بمفهومها الواسع تعني الصلة بين الفرد والدولة التي يقيم فيها بشكل ثابت، ويرتبط بها جغرافيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، ويعد ازدياد الشعور بالمواطنة من التوجهات المدنية الأساسية التي من أهم مؤشراتها الموقف من احترام القانون والنظام العام، والموقف من ضمان الحريات الفردية واحترام حقوق الإنسان، والتسامح وقبول الآخر وحرية التعبير وغيرها من المؤشرات التي تمثل القيم الأساسية للمواطنة مهما اختلفت المنطلقات الفكرية والفلسفية لهذا المجتمع أو ذاك. ومفهوم المواطنة بدأ باعتباره نوعًا من الانتماء للمكان حيث عاش الإنسان في مكان معين لا يستطيع فراقه وينتمي إليه ثم أضيف بُعد الجماعة إلى بُعد المكان بعد ذلك، وأصبح الانتماء موجهًا للمكان والجماعة معًا، وحينما تطورت الجماعة وكبرت فقدت تجانسها واقتصرت المواطنة على بعض دون الآخر؛ ثم تطور الأمر إلى مرحلة جديدة، حيث لعب الدين مرجعية للمواطنة مرتبطة بالدولة القومية معبّرة عن الأمة التي شكلت مرجعية للدولة والمواطنة.
ومبدأ المواطنة يعني التزامًا سياسيًّا ويتمثل في التوافق المجتمعي على عقد اجتماعي يتم بمقتضاه اعتبار المواطنة مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة لكل من يحمل جنسية الدولة دون تمييز ديني أو عرقي أو بسبب الذكورة والأنوثة ومن ثم تجسيد هذا التوافق في الدستور.
وقد صنف السويدي (2001) المواطنة في أربع صور هي: المواطنة المطلقة، وفيها يجمع المواطن بين الدور الإيجابي والسلبي باتجاه المجتمع، والمواطنة الإيجابية، والتي يشعر فيها الفرد بقوة انتمائه الوطني وواجبه بالقيام بدور إيجابي لمواجهة السلبيات، والمواطنة السلبية، وهي شعور الفرد بانتمائه للوطن ويتوقف عند حدود النقد السلبي ولا يقدم أي عمل إيجابي لوطنه، والمواطنة الزائفة وفيها يحمل الفرد شعارات جوفاء لا تعكس الواقع ويمتاز بعدم الإحساس باعتزازه بالوطن.
وتبحث معظم الدول في كيفية إعداد أفرادها إعدادًا سليمًا على نحو يجعل منهم مواطنين قادرين على تحمل المسؤوليات، والمشاركة في تطوير مجتمعهم في ظل تلك التغيرات، الأمر الذي يتطلب نوعًا من التربية يفي بتلك النوعية من المواطنين، ولهذا أصبحت التربية من أجل المواطنة من أكثر الموضوعات جدلاً في مجال التربية المعاصرة، وذلك لمواجهة الإحساس بالاغتراب وعدم الإحساس بالهوية والانتماء وضعف المشاركة السياسية.
إن المواطن في أي مجتمع حين يسعى نحو تحقيق منجزات ما، فإن ذلك سيدخل ضمن دائرة المواطنة الحقة سواء من جانب الحقوق أو الواجبات، والتي حتمًا ستأتي بثمارها في تحقيق الغرض المنشود وفق الاتجاه الذي تسلكه الدولة ضمن المصلحة العامة. ومن هنا يمكن أن نطرح الفرض الذي يمكن أن يعبر عن نمط العلاقة الجدلية بين دور المواطنة ومدى فاعليتها في ترسيخ معايير واتجاهات التنمية المستدامة، كون أن هذا الاتجاه يعد من أولويات الخطط التنموية التي تدخل ضمن أطروحات مستقبلية تبحث في مشاكل التنمية وجوانبها الأساسية. إن المواطنة ليست صفة شكلية يحملها المواطن، بل ارتباط صميمي وحميمي بجذور الانتماء والولاء للأرض المعطاء، فضلاً عن الروابط الاجتماعية التي يجتمع عليها المجتمع للقيام بمتطلبات التنمية واستدامتها، على أن تحقيق مثل هذا الدور لا ينفصل عن متطلبات التنمية السياسية وهي تضع كل إمكاناتها نحو تحقيق واجبات الدولة ورعايتها للأمن والاستقرار وفق الإرادة الذاتية. إن قيام الدولة الحديثة على مبدأ المواطنة هو أكبر ضمان لاستقرارها وأمنها وتقدمها، حيث يشعر جميع أفراد المجتمع بأنهم متساوون في المكانة، وأن التفاعل والفرص التى يحصلون عليها نتيجة لعضويتهم في جماعة وطنية وقدرات ومهارات، وليست نتيجة لمكانة قبيلة أو مرتبة اجتماعية، مما يسهم في تشكيل شعور حقيقي بالانتماء إلى الوطن.
فبناء الإنسان الحر الديمقراطي الذي يمتلك القدرة على المشاركة في الحياة السياسية مشاركة فاعلة وحيوية، لا يحدث مصادفةً ولا يوجد في فراغ اجتماعي، بل هو الإنسان الذي يتوجب على التربية أن تقوم بإعداده وتحضيره إنسانيًّا، للمشاركة الحرة في صنع المصير الاجتماعي للمجتمع الذي ينتمي إليه. وبدون التربية الديمقراطية والتربية على المواطنة يتحول المواطنون إلى رعايا وأفراد ورعاع لا يمتلكون مصيرهم السياسي وغير قادرين على المشاركة في الحياة الاجتماعية أو في الشأن العام.
والمواطنة بالمعنى الحديث تعني تنمية أفق مشاركة الأشخاص والأفراد في الحياة المجتمعية والسياسية مشاركة حرة مسؤولة، وذلك عبر الصيغ الديمقراطية الحديثة للمشاركة الحرة من انتخابات وتصويت وحق الترشيح. وتشمل هذه الممارسة الحرة الحق في التظاهر وفي الاعتراض، وفي ممارسة حرية القول والتعبير. كما أنه يحق للمواطن بصيغة مفهوم المواطنة، هذا أن يشارك في الجمعيات والمنتديات والممارسات السياسية وأن يعبر بالأدوات التي يمتلك عليها عن رأيه وتطلعاته في الشارع والمنزل ومكان العمل.
فالمواطنة الحديثة تتمثل في قدرة الفرد على وعي القيم الديمقراطية والأخلاقية الأساسية التي تجعله أكثر قدرة على اتخاذ خياراته الديمقراطية، وأكثر قدرة على الفعل في إطار إحساسه بالانتماء إلى كيان اجتماعي منظم ومحدد، والمشاركة الفعالة في مختلف المسؤوليات العامة للمجتمع، وفكرة المشاركة في الحياة السياسية هي أساس الديمقراطية، والانطلاق من فكرة النظر للمواطنين كمشاركين نشطين فى المجتمع بما يسهم في تحقيق الرخاء الاجتماعي.
إنّ بناء الإنسان المواطن الصالح الذي تقع عليه أعباء التنمية وبناء الوطن يُعد من أهم الأهداف التي يجب أنْ يعمل على تحقيقها كل مجتمع، فلا بد من اضطلاع المؤسسات التربوية بدورها الصحيح، بطريقة خلاّقة تمكّنها من تحمل مسؤولياتها، حيث إنّ غياب ثقافة المواطنة الصالحة تُضعف من عاطفة الولاء والانتماء مما يجعل الأفراد يشعرون بحالة من الإحباط، ويثبط ذلك من عزيمتهم في النهوض بقدرات مجتمعهم، ويشيع بينهم الظواهر السلبية كالأنانية وتقديم المصلحة الشخصية والنزعات الخاصة على المصلحة العامة.
إن فكرة الإنصاف قد تتجاوز المفهوم الضيق للتنمية والقائم على أساس مظاهر التوزيع للثروات والدخول في المجتمع، لتشتمل في مضمونها على عناصر أوسع، كالضوابط والروابط الإنسانية من حقوق وحريات سياسية ومدنية وكثير من المجالات والمسارات التي يستطيع بها الفرد كمواطن من المساهمة الفاعلة في حياة الرعية من المجتمع وفي إطار دور الدولة المسؤول كراعي لهذه التنمية. فقد ترتبط فكرة الإنصاف أساسًا بالاستدامة لمختلف أنماط التنمية سواء البشرية منها أو المادية والسياسية والتي تنصب محصلتها لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية على حدٍ سواء، دون أن تكون هناك من تضحية بقدرات وفرص تلك الأجيال فنظرة إلى المستقبل بخصوص تعظيم دور المواطنة ومنحها أفق أوسع تتفتح لها أبواب الإبداع والتقدم في ظل نظم سياسية تسودها الحريات المدنية والمشاركة السياسية الفاعلة في الحياة العامة من الناحية العملية لا الظاهرية وكأُطر عامة لتتشكل مناهج التنمية المنشودة واستدامتها.
إن بناء مفهوم المواطنة وتأصيله وعيًا مرجعيًّا في عقل المواطن، لتعزيز الانتماء إلى الوطن ثقافيًّا وإنسانيًّا، أصبح ضرورة حضارية تفرض نفسها في مختلف التكوينات الاجتماعية للوجود الإنساني المعاصر. ولا ريب في ذلك لأن مفهوم المواطنة يشكل واحدًا من المفاهيم الأساسية للتقدم الإنساني القائم على التفاعل الحر بين الإنسان والوطن، بين الإنسان وقيم الحرية والإخاء والتسامح. ويعول كثير من المفكرين اليوم على أهمية بناء هذا المفهوم وتأصيله، لتحرير الوعي اليوم من أثقال الانتماءات التقليدية الضيقة التي تتمثل يقينًا في الانتماءات الطائفية والقبلية والعشائرية الضيقة. فالتحولات الكبرى الضاغطة، التي تشهدها المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، تعمل على تفكيك المنظومات الأيديولوجية القديمة، وتفرض على الأنظمة السياسية المعاصرة إعادة النظر في أنساقها الثقافية من أجل استمرارها في الهيمنة والوجود.
مفاهيم المواطنة قابلة للتحديث نسبة لتغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإن كانت في مفهومها القومي تقوم على قيم خاصة كالانتماء والولاء للوطن وخدمته بإخلاص، إلا أنها تتطلب إدماج الفكر العام ضمن معطيات الدولة الحديثة بالمشاركة والتعاون المفترض أن يكون قائما في كل مجال حيوي يقوم على خدمة المجتمع الذي تتحقق منه الخدمة الاجتماعية ذات الأهداف المشتركة كالتعليم والصحة والأمن وغير ذلك، كذلك فإن الأمر يتطلب تعزيز قيم الانتماء بمفهومه القومي لإنتاج مفاهيم أخرى لا تركز على القومية والولاءات التقليدية كالقبلية وغيرها، وإنما تساهم في تشكل أفكار حضارية قائمة على التعايش واحترام ثقافات الآخرين وتحقيق العدل والمساواة والبعد عن التمييز، بتنمية المقدرة الفكرية التي تنظم الاختلافات الثقافية وتعمل على مواجهتها.
الأمر الذي يدعم استقرار الوطن وتطوره يأتي من تعزيز القيم الإيجابية التي من شأنها مكافحة جميع الظواهر المرفوضة، بينما تأتي سبل الخروج من الريعية الاقتصادية في الدخول إلى العمل الإنتاجي، الأمر الذي يتطلب تبني طبيعة الفرد في حبه لإثبات دوره الاجتماعي، وتحقيق ذاته على المستوى الشخصي والاجتماعي، بما يندرج تحت جملة من الحاجات الأساسية والثانوية تتمثل في مدى التصاق الحقوق الإنسانية بمفهوم المواطنة.
المواطنة الحقيقية تبدأ عندما يشعر الإنسان بأنه ليس ضيفًا في بلده، بل هو جزء منه ومشارك في بناء مستقبله، والانتماء يمنحنا الشعور بالأمان والاستقرار، ويجعلنا نشعر بأننا لسنا وحدنا في هذا العالم، والمواطنة ليست مجرد حامل للحقوق والواجبات، بل هي تعبير عن الالتزام الشخصي ببناء مجتمع يسوده السلام، وعندما يتحد الأفراد تحت راية الانتماء والوحدة، يمكنهم تحقيق المعجزات التي كانت تبدو مستحيلة، والمواطنة تتطلب أيضًا الاهتمام بالمصلحة العامة والمشاركة الفعالة في تطوير المجتمع، والانتماء الحقيقي يعني أن تكون جزءًا من شيء أكبر منك، وأن تعرف أنك تسهم في بنائه وتطويره الانتماء الحقيقي ينبع من القلب، ويظهر في تعاملاتنا اليومية مع الآخرين ومساهمتنا في تحقيق الخير العام. وتحقيق الأهداف، وإصرار السعودي على الابتكار والتقدم في جميع المجالات، إنها دعوة للتفاؤل والعمل الجاد نحو بناء مستقبل أفضل للوطن وللأجيال القادمة، وفي هذا اليوم المميز، يجدد العهد بتعزيز الوحدة والتضامن، وبمواصلة العطاء والتقدم نحو تحقيق الأحلام والطموحات. إنه يوم للاحتفال بالتاريخ العريق وللتفكير في المستقبل بثقة وتفاؤل، داعين بقوة “نحلم ونحقق”.–
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا