وكأنما يعيد التاريخ نفسه علي المصريين .. 47 عاما مضت بين حرب تحرير الأرض 1973 ومعركة إجلاء وباء كورونا الذي عصف بالعالم كله اقتصاداً وسياسة واجتماعا .. عشت وأبناء جيلي الحدثين .. ورغم اختلافهما إلا أنهما اتحدا في تغيير الكثير من عادات المصريين الذين تمر بهم المحن فيتأقلمون عليها .. يصبرون ويثابرون..
كانت الإذاعة المصرية “سيدة” رمضان قبل أن يحتل مكانها التليفزيون الذي ظهر بعدها بحوالي 27 عاماً .. معظم العائلات المصرية حرصت علي شراء مجلة الإذاعة والتليفزيون لمطالعة انفرادها بخريطة برامج الراديو والشاشة الصغيرة .. الأعمال الرمضانية في زمن الحرب وما قبلها تصدي لها عمالقة الصحافة والموسيقي والتمثيل .. وإذا اسعفتني الذاكرة المتآكلة فإن عبدالحليم حافظ قدم أول وآخر مسلسل إذاعي له من تأليف عندليب الصحافة محمود عوض وهو “أرجوك لا تفهمني بسرعة” وشاركته نجلاء فتحي ..
بدأ رمضان 73 في 27 سبتمبر .. وعكست الأجواء الرمضانية مفاجآت كالعادة .. فقدمت المطربتان الكبيرتان شادية ووردة الجزائرية الفوازير .. الأولي في البرنامج العام وكتبها زجلا عبدالوهاب محمد والثانية علي موجة الشرق الأوسط وأعدها مفيد فوزي واسمها “بص شوف وردة بتفطر فين” .. كان التنافس بين الإذاعة والتليفزيون علي عين وأذن المشاهد تماما كما هو الحال حالياً من صراع الفضائيات علي جذب الجمهور بالتوك شو أو مسلسلات لنجوم ونجمات .. والغريب أن الشاشة والميكروفون تكتما أسرارهما تمهيداً لبدء موقعتهما الرمضانية , فاذا بحرب اكتوبر تفاجيء الجميع بمن فيهم د.عبدالقادر حاتم وزير الإعلام آنذاك ..
أعد التليفزيون مفاجأة من العيار الثقيل للإذاعة فقد أعلنت الصحف قبل بداية رمضان 1973 أن نجم الفوازير هو أحمد مظهر .. والحقيقة أنها كانت 3 مفاجآت في توقيت واحد الأولي التكلفة التي بلغت 22 ألف جنيه وهو رقم مهول آنذاك والثانية تقديمها برسوم متحركة لأول مرة من إعداد الرواد حسام ومهيب والثالثة أحمد مظهر نفسه المعروف بفروسيته وملامحه الجادة فكيف يقبل بهذه المغامرة ..
لم يكن المصريون يعلمون أن عاداتهم ستتغير بعد 10 أيام من بداية الشهر .. روتين العائلات اليومي بدا وكأنه تكرار لشهور الصيام ما عدا عام 1967 الذي خيم فيه الحزن علي كل بيت بعد النكسة .. أصحاب التليفونات المنزلية – وهم قلة – يتبادلون التهاني .. الغالبية يحرصون علي زيارات عائلية أو لقاءات الجمعة الأخيرة في شعبان .. الطوابير امام محلات الكنافة والقطايف والفرارجية والجمعيات الاستهلاكية لتجهيز تموين الشهر الفضيل فلم تكن هناك وجبات جاهزة ولا ديلفري! ولا حتي توصيل من البقالة (لم نعرف سوبر ماركت) .. الاهالي ينفحون المسحراتي قروشا لينطق اسماء ابنائهم..
فجأة وقعت الحرب .. نزل الخبر علي الجميع كالصاعقة فنسوا مواعيد المسلسلات .. قنعوا بلقيمات يبتلعونها بعد الإفطار ثم يتحول مؤشر الراديو أو مفتاح قنوات التليفزيون بحثا عن الأخبار والبيانات العسكرية .. تراجع كل اهتمام رمضاني سواء سهرات المقاهي أو التزاور بعد الإفطار أو تناول حلوي ست البيت مع الشاي والقهوة .. الحرب وأخبارها كانت رقم واحد واتنين وتلاتة .. المصريون كانوا يعانون من عقدة “67” والبعض شكك في البيانات الأولي .. وأخرون لجأوا لإذاعات لندن وإسرائيل ومونت كارلو بحثا عن الحقيقة .. صلوات التراويح في المساجد كانت تدعو للجيش بالنصر …. تأجلت الدراسة في الأيام الأولي واستؤنفت بعد وقف إطلاق النار .. وانقسم المصريون – منذ هذه الأيام – إلي منحاز للدولة أو مشكك فيها .. البعض صدق السادات وآخرون انتقدوا تغيير سعد الشاذلي وبدأوا يتكلمون عن جهل لماذا لم ندخل إسرائيل طالما انتصرنا .. وبدا الجميع خبراء عسكريون فأطلق عليهم بطل الحرب والسلام “جنرالات المقاهي”..
وفجأة – كما يحدث حالياً – تغيرت العادات الأزلية الرمضانية مثلما الحال الآن نتيجة للحظر الذي تفرضه الدولة حرصاً علي حياتنا..
نسي الشعب المسلسلات والفوازير ربما لأن الوعي كان أكبر مما هو عليه الآن .. التركيز استند علي موعد انتهاء الاحتلال .. وانسحب هذا الاهتمام إلي الاستديوهات الإذاعية والمتلفزة فتوقفت المسلسلات وتفرغ كبار المطربين والملحنين لإعداد الأغاني الوطنية التي تم بثها علي مدار اليوم فسحبت البساط من تحت مائدة التسالي الرمضانية..
لكن للأسف بعد 47 عاما انخفض وعي الشعب رغم التطور التكنولوجي في وسائل الاتصال , فما زال البعض يعتقد أن الوباء “اشتغالة” من الحكومة .. ويزعم آخرون أنه غضب من الله علي العباد الذين نسوا دينهم .. وشككت فئة ثالثة في الأرقام المصرية مؤكدين أنها أعلي بكثير بينما طالب كثيرون بعودة الحياة الطبيعية لأنهم تضرروا اقتصاديا إلي حد بعيد منوهين أنه لن يصيبهم إلا المكتوب ..
وللأسف بعد بيان رئيس الوزراء يوم الخميس الماضي اقتنع الجميع بالعودة للحياة الطبيعية وأن تلك الكورونا ما هي إلا إنفلونزا .. وإذا كان المصريون في عصر الأبيض والأسود انقسموا لفريقين فقط , فهم الآن في زمن السوشيال ميديا والفضائيات أكثر من 20 فريقاً .. تراجع الادراك المجتمعي تدريجيا فبعد ان كانت الاعين والقلوب تتابع في لهفة أرقام ضحايا الكورونا خصوصا بعد أن اقتحمت حدودنا، تحول الاهتمام الي سؤال واحد متي ينتهي الحظر ! مل الجميع من المنازل وصارت الرغبة في الخروج للمجهول أقوي من غريزة الحياة.. من ثمم ارتفعت اعداد المصابين بالكورونا في أول ايام رمضان نتيجة للانفلات الذي حدث بعد مد حظر التجول فخرج الناس بلا ادني احتراز للاسواق والمحال والمولات فكان ما كان..التزموا يرحمكم الله!