ولا غرو إذاً أن نجد العبادات التي شرعها الإسلام؛ شرعت لهدف كبير ورئيس، إن لم يتحقق بأدائها فقدت جوهرها وثمرتها المرجوة منها، وهي: الأخلاق. (فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، فقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ العنكبوت: 45، فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل، هو حقيقة الصلاة.
والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولاً غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ التوبة: 103، فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.
وكذلك شرع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائماً من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة، وإقراراً لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: »من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه«[4]. والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183.
وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة؛ الذي كلف بها المستطيع، واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه، يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، ومثلاً لما قد تحتويه الأديان أحياناً من تعبدات غيبية. وهذا خطأ، إذ يقول الله تعالى في الحديث عن هذه الشعيرة: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ البقرة: 197.
هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام، وعرفت على أنها أركانه الأصيلة، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:»إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق«. فالصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها،
ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلب، وينقى لبه! ويهذب بالله – وبالناس – صلته فقد هوى، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ﴾ طه: 74-76 فالعبادات هدفها في الإسلام أن تنشئ إنساناً ذا خلق قويم، وسلوك بين والله والناس عظيم، وليست مجرد طقوس تؤدى، مفرغة من جوهرها ومضمونها ومقصدها الكبير.
قصة يوسف عليه السلام نموذجاً
والإسلام لا يحارب الحب، ولا يقتل غريزة الجنس، وإنما يريد لهذه الغريزة التنظيم والتهذيب والتسامي، وقد بسط القرآن الكريم إحدى هذه المشاكل العاطفية في سورة يوسف.
“إن يوسف فتى رائع الجمال، جذاب التقاطيع، يلفت النظر بروعته الفائقة، وفتنته الطاغية ﴿مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ لكنه على جانب مثالي من الصلاح والورع.. إنه نبي من أنبياء الله، ويروي القرآن قصة امرأة العزيز التي جنَّت بفتاها حبا.. ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾. ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ..﴾. ثم تأتي الوقفة الدرامية العنيفة: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾.
لكنها لم تتنبه للخطر الذي يتهددها من زوجها لو علم أنها تنوي خيانته، وفي نفس الوقت تفكر في أن تطعن الفتى الصالح الذي أذل كبرياءها واحتقر نزواتها، فماذا تعمل؟؟ لقد قالت لزوجها: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وتمضي القصة وسعار الجنس لم يهدأ أواره في قلبها، وتتحدث نسوة المدينة بقصة امرأة العزيز العاشقة فتدعوهن إلى قصرها، وتأمر يوسف بالخروج إليهن: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾. فترد امرأة العزيز في شبه انتصار وإصرار: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.
ويخوض يوسف معمعان محنة قاسية رهيبة، يتعرض فيها لذل السجن وعذابه. ولكنه سعيد بانتصار القيم الفاضلة في نفسه، سعيد بنجاته من حمأة الإثم التي أوشكت أن تقذف به إليها امرأة العزيز، ثم ينتصر الحق، ويعترف النسوة بطهارة يوسف بعد سنين: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ. وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
وهكذا تصور لنا قصة يوسف مع امرأة العزيز، قصة الضعف البشري بكل ملابساته، وانحرافات النفس الإنسانية ونزوعها إلى الشر، ولم تكتف القصة بتصوير مواطن الضعف فينا نحن البشر، بل صورت جوانب القوة المشرفة، والعفة والطهارة والانتصار على حيوان الغريزة الجامح، والصراع العنيد بين الفضيلة والرذيلة في أعماقنا..
إنها قصة جنسية بكل مقومات القصة، لكن أي جنس وأية قصة!! الظلال الموحية، موسيقى الألفاظ، المواقف الدرامية، عنصر التشويق والمتابعة، ثم الانتصار لفضائل الإنسان وقوة الروح في النهاية، حتى امرأة العزيز الخاطئة انتصرت فيها قوى الخير، وعادت إلى رشدها، وطأطأت رأسها إجلالاً وتوقيراً لإنسان كبير وقف صامداً كالعلم في مواجهة الثورة الغريزية الجارفة وانتصر..”
وقد رأينا الدراما الإيرانية، وقد عرضت قصة نبي الله يوسف عليه السلام، في مسلسل، وعند هذا المشهد تحديداً شرحاً لقوله تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ فإذ بمخرج المسلسل يأتي بأبواب مفتوحة تغلق بسرعة، باباً وراء باب آخر، وقد أوحت بصورة المطاردة من امرأة العزيز تجاه يوسف عليه السلام، ودلت دلالة واضحة بالمشهد دون جرح وإيذاء للمشاهد، ودون إثارة للغرائز، مع الحفاظ على الحقيقة التاريخية.
المصداقية ضابطاً أخلاقياً
من الضوابط الأخلاقية للفن: ضابط المصداقية، وسوف نتناوله بالتفصيل هنا، والمصداقية نعني بها هنا: مراعاة تقديم الحقائق، فعلى الفنان أن يتوخى الحقيقة الثابتة، وألا يجره الإبداع الفني، أو الحبكة الدرامية، أن يلفق أحداثاً، لا علاقة لها بالواقع التاريخي، بل ربما أدى إلى تشويه الشخصية، أو طمس الحقائق، وتلفيق ما ليس فيها من مثالب وعيوب، تؤدي إلى تشويه الحقيقية التاريخية، أو الفكرة، وضياع الحقيقة عنها، وغيابها. “في واقعنا الأدبي المعاصر نجد كثيراً من الكتاب قد أبدعوا في الروايات التاريخية إبداعا كان مدعاة الإكبار، وفيهم من حافظ على الأحداث بوقائعها الثابتة دون أن يجور على حق معلوم، والأديب الكبير الأستاذ محمد فريد أبو حديد مثل رائع لصاحب الفن الروائي الناطق بأحداث التاريخ الحقيقي دون تحيف، وقد سمح لخياله أن يخترع من الأحداث والشخصيات
ما يساعد على كشف الحقائق لا ما يعمل على طمسها المتعمد، إذ إن الروائي المطبوع لا يعوزه الاقتدار على بعث الماضي في ثوبه المعهود دون أن يزيد عليه ما يزحزحه عن واقعه الصريح! فالخيال في الرواية التاريخية كالخيال في القصيدة الشعرية يأتي ليزيد الحقائق بهاءً، وليجسد المشاعر تجسيداً ينبض بالدم، ويتدفق بالحياة! وهذا ما يجب أن يلتفت إليه مؤلفو المسلسلات إذا اخترعوا شخصية خيالية، أو أضافوا واقعة محتملة، فإن ذلك يكون ليجلو الحقائق ويؤكدها، أما أن يصح مصدر تشويه متعمد لها، فإن حق المشاهد في معرفة الحقيقة التاريخية يضيع”
وهو ما نراه في كثير من الأفلام الإسلامية التي أنتجتها وقدمتها السينما المصري في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فما من فيلم مثلاً: فجر الإسلام ونور الإسلام والشيماء وغيرها، نجد أن إقحام عنصر العاطفة، عاطفة الحب مثلاً، يقحم بشكل غير صحيح، ففي الفيلم الأول، لم يسلم البطل الفنان إيهاب نافع إلا لأن البطلة (الفنان ماجدة) أسلمت، فأسلم حباً لها،
وتحمل العذاب معها في مكة حباً فيها، ثم هاجر، وهكذا، وفي الفيلم التالي نور الإسلام البطل وهو الفنان عبد الرحمن علي، أسلم، حباً في جارية وهي البطلة الفنانة نجوى إبراهيم، رغم أنه كان بينه وبين سيدها ثأر لاتهامه بقتل خاله، وهكذا تاهت المعاني الحقيقية للفيلم، وهي أن الإسلام بعظمته، وقد دخل فيه هؤلاء حباً لأنه أعتقهم من الرق، وأنعم عليه بنعمة الحرية، والإخاء والمساواة بين ساداتهم الذين أعتقوهم من ربقة الرق، بينما علق في ذهن المشاهد قصة الحب التي لا أصل لها والتي استهلكت معظم أحداث الفيلم.
ويكون هذا الضابط مهما في مجال فني آخر ومهم، وهو مجال الفكاهة، فينبغي ألا تكون الفكاهة أو الدراما الفنية على حساب قلب الحقائق، بأن تجعل من الفاجر بطلاً، أو من الطائع فاجراً، أو تكون على حساب الحقيقة التاريخية، بتشويه سمعة إنسان عُرف – تاريخياً – بالخير والصلاح، بدعوى المزاح والضحك، وسوف أضرب هنا نموذجاً يبين خطورة أن تكون المادة الفنية بقلب الحقائق، فمن الشخصيات التاريخية العظيمة التي ظلمها فن الفكاهة، وعدم التدقيق في أحداث التاريخ، وكتابته: شخصية بهاء الدين قراقوش، وقد وقع للأسف معظم الكتاب الكبار، مثل: د. شوقي ضيف، والأستاذ أحمد الحوفي، والأديب الكبير عباس محمود العقاد؛ الذين كتبوا في الفكاهة في ذم هذه الشخصية، دون تثبت أو تروي، حتى شاع في العبارات الشعبية “حُكْم قراقوش” عندما يستنكر الناس ظلم إنسان، أو تعنته وغباءه في الحكم والتصرف! كما تم عمل فيلم سينمائي مصري بعنوان: “قراقوش”.
وسبب ذلك: اعتمادهم على كتاب “الفاشوش في أحكام قراقوش” المنسوب للأسعد بن مماتي، وقد قال في مقدمة كتابه: “إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، قد أتلف الأمة، صغت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين” وقد نسبت هذه الرسالة ـ عدا الديباجة ـ إلى الإمام السيوطي، بيد أن المرجح: أنها ترجع إلى عصر صلاح الدين ذاته، بدليل أن ابن خلكان يشير إليها، ويبدي ريبة في صحة ما ورد فيها، ويرجح أنها موضوعة، وليست من تأليف ابن مماتي. وهناك من أكد صحة نسب الكتاب لابن مماتي، وبين أن السبب في كتابة ابن مماتي لهذا الكتاب: حنقه وحقده لبهاء الدين قراقوش.
فقد اعتمد كتاب الأدب، والعمل الفني على هذا الكتاب، وما روي عن الرجل من أقاصيص، بينما أهملوا الحقائق الثابتة عنه من مصادرها الصحيحة، فشاع بين العوام والقراء الأباطيل، وغابت الحقائق، والتي يقول المؤرخون الأثبات الثقات بعكسها تماماً، فقد قال عنه ابن تغري بردي: هو قراقوش بن عبد الملك الأسدي، الخادم الصلاحي، وقراقوش لفظ فارسي معناه: العقاب، ويطلق على الإنسان الشهم الشجاع، اتصل بخدمة صلاح الدين بعد عمه شيركوه، وكان صلاح الدين يثق به، ويعتمد عليه في مهماته، وهو الذي بنى قلعة الجبل، والسور على مصر والقاهرة، والقنطرة عند الأهرام، وقد سلم إليه صلاح الدين عكا بعد فتحها، ثم أسره الفرنج بعد استردادها فافتداه صلاح الدين
ويقول العماد الكاتب الأصفهاني عن كيفية اختيار صلاح الدين له ليتولى عكا: فقال السلطان صلاح الدين الأيوبي: “ما أرى لكفاية الأمر المهم؛ وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام المحرب؛ النقاب المجرب؛ المهذب اللوذعي؛ المرجّب الألمعي؛ والراجح الرأي؛ الناجح السعي؛ الكافي الكافل بتذليل الجوامح؛ وتعديل الجوانج؛ وهو الثبت الذي لا يتزلزل؛ والطود الذي لا يتحلحل؛ (بهاء الدين قراقوش) الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش.
ويقول عن أعماله ونشاطه وهمته: “وهو الذي أدار السور على مصر والقاهرة، وفات وفاق الفحول بآثار مساعيه الظاهرة، فنأمره أن يستنيب هناك من يستكفيه لتمام تلك العمارة، ونؤمره لهذا الأمر فهو جدير بالأمر والإمارة وكوتب بالحضور، لتولي الأمور، وعمارة السور. فوصل متكفلاً بالشغل، متحملاً للثقل. منشرح الصدر بالعمل، منفسح السر والأمل. مبتهجا بالأمر، ملتهجاً بالشكر “
فانظروا كيف ابتدع الخيال الشعبي وعدم الدقة في الكتابة، وقلب الحقائق، في تشويه صورة رجل من عظماء عصره، وقد تناقلت الأجيال الأساطير المنقولة عنه، كأنها مسلّمات وحقائق، واستبدلت شخصية الرجل التاريخية العظيمة، بتلك الشخصية القاتمة الزائفة الماجنة الغبية، التي ما زالت تلاحقه وتغلب عليه حتى في عصرنا، وعلى أقلام كتاب كبار، من أمثال: عباس محمود العقاد، وشوفي ضيف، وأحمد الحوفي، وغيرهم للأسف عند حديثهم عن فن الفكاهة. فلا بد من أن يراعى هذا الضابط المهم في الفن: ألا يكون على حساب الحقيقة العلمية والتاريخية، وألا يقلب الحق باطلاً، أو الباطل حقاً، بتزويره وتزويقه، وإيهام الناس.
فنون تقوم على الكذب!
وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: إذا كنا نشترط المصداقية معياراً وضابطاً أخلاقياً في العمل الفني، أفليس هناك لون من الفنون يقوم على التخيل والكذب من الأساس، مثل التمثيل، ومثل النكتة، سواءً كانت سياسية أو اجتماعية، فما الموقف من مثل هذه الفنون من حيث الضابط الأخلاقي؟
وأرى أن النكتة لا تختلف عن التمثيل، فحكمها هو حكم التمثيل، والاعتراضات التي على النكتة هي الاعتراضات التي يعترض بها على النكتة، فما قيل: إن النكتة عمادها الكذب وما لم يحدث، وهو أمر منفي عن النكتة، لأن قائلها يقول لك في بداية الكلام: سمعت آخر نكتة؟ فتقول:
لا، فالقائل والمستمع يعلم يقيناً أنه يقول شيئاً افتراضياً، فلا يتبادر إلى ذهن المستمع، أن المتحدث يحدثه عن شيء واقعي، بل يحدثه عن شيء فيه من الواقع، ومعظمه من التخيل، وهو هنا لا يكذب عليه بمعنى الكذب الذي هو موهم للمستمع بالصدق بينما حقيقته كذب. وهو ما ينفي عنها الحرمة من هذا الباب، وكذلك التمثيل، يقول الإمام أبي حامد الغزالي: “أعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه، بل لما فيه من ضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر شيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً، وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذوناً فيه، وربما كان واجباً.
الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً
أما بخصوص النكتة فيقول الدكتور يوسف القرضاوي في ضوابطها: “ومرد ضوابط النكتة هنا أيضاً إلى ما يسمح به العرف من النكات، ولم يره جارحاً ولا خارجاً، فلا بأس به، وإلا كان ممنوعاً”
وكلاهما يدخل في باب الوسائل التي يغرس بها القيم، أو المعاني، والتدليل على ذلك يحتاج إلى تفصيل أكثر، وأكتفي بما ذكرت من حيث المطلوب في هذا الموضع.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان