إن مكافحة مافيا الاستيلاء على أراضى أملاك الدولة، تتطلب إعادة تهيئة البيئة التشريعية، وتفعيل الإجراءات القانونية، بشكل يتوافق مع ما تشهده الساحة المصرية من جرائم، وطرق غير مسبوقة تتفنن في الاستيلاء على ثروات البلاد، والهروب بكل السبل الممكنة من العقاب، الأمر الذي يسهم في فقدان البلاد لجزء كبير من قدرتها على تتبع هؤلاء المجرمين، الذين استحلوا الاستيلاء على المال العام وثروات البلاد، وأضاعوا حقوق أجيال كاملة، فى الإستفادة مما توفرة تلك الأملاك لبلادهم من رصيد، يسهم بشكل فاعل في خطط التنمية والبناء والنهوض، لذا فإن مسئولية مواجهة تلك المافيا التي تمثل سرطانا ينهش جسد الدولة ، تقع على عاتق الأجهزة الرقابية فى المقام الأول، بالإضافة إلى المسئولية التضامنية من جانب كل مؤسسات الدولة .
وليس ثمة شك فى أن توصيف طبيعة المشكلة وحدودها، هي الخطوة الأولى على الطريق الصحيح، لمواجهة تلك الكارثة، وإستعادة حقوق الدولة المنهوبة، من خلال تحديد آليات جديدة للمواجهة، وكذلك سبل التجريم، بما يضع نهاية لهذه الجرائم على المدي البعيد، وينهي حالة غير مسبوقة من الفساد والإفساد، تشهدها الدولة المصرية منذ عقود .
فعندما نتعمق في بحور هذا الملف شديد الخطورة ، نجد أننا أمام تعدد لأنواع أراضى الدولة، وتعدد مماثل للجهات المالكة لها، فهناك منها ما يسمي بزوائد التنظيم والأراضي ذات المساحات الخاصة داخل الكتلة السكانية ( المتخللات ) والأراضي الزراعية، وهى الأراضى التى تملكها (المحافظات- الإصلاح الزراعى- الأوقاف)، ووفقا لتلك الأنواع والجهات ، تتعدد نوعية التعديات وأشكالها، فالمحافظات تمتلك عدة أشكال من الأراضي، أمثال أراضى الشوارع التخطيطية، وهى الأراضى التي تزيد عن العرض التخطيطي لشوارع المدن وتصبح زوائد تنظيم، و تباع بطريقة مباشرة للمواطن المستفيد أمام عقاره، فالشوارع التخطيطية الخاصة بالمدن تتبع إدارات التخطيط بمجالس المدن بكافة المحافظات، لأنها هى التى تعمل على تخطيط الشوارع الرئيسية بالمدينة أو المحافظة ، ومن خلالها تتم التوسعة للشوارع المراد تخطيطها ، أو بيع الزوائد التنظيمه المتبقية بها ، بعد إعتماد رسومات تلك الشوارع التخطيطية النهائية بها، ثم تقوم بإخطار ( إدارات الأملاك ) بمجالس المدن بعد ذلك بزوائد التنظيم ، التى حددت من عدمه بداخل الشوارع التخطيطية المعتمدة، وهي تخضع لإشراف المحافظين، لأنهم الموكلين ببيع أراضى الدولة بالمحافظات ، بعد التنسيق مع وزارة الأثار في بعض الحالات الخاصة، فمثالا على ذلك (منطقة أهرامات الجيزة)، التى يوجد بها مساحات شاسعة من الأراضي الفضاء حول المناطق الأثرية، ولكن يمنع فيها (البيع- البناء- الإستغلال)، بصفة عامة سواء للدولة أو الأفراد.
وتتعدد أشكال التعدى على زوائد التنظيم ، ومنها قيام المواطن بالبناء على قطعة الأرض الخاصة به ، وضم القطعة الخاصة بزوائد التنظيم (أملاك المحافظة)، رغم علم المالك بأن تلك القطعة (زوائد التنظيم) وملك للمحافظة، إلا أنه يقوم بالإستيلاء عليها بالبناء على كامل المسطح (الملكية الخاصة + ملكية المحافظة)، وذلك بدون ترخيص، وهذه الفئة تمثل حوالى ٩٠% من نسبة التعديات على زوائد التنظيم ، حيث تجهل تلك الفئة ثوابت الشوارع التخطيطية لعدم قيامها بإستخراج الترخيص، و هناك من يقوم باستخراج الترخيص للجزء الخاص به والبناء عليه، ثم يقوم بالتعدى على (زوائد التنظيم)، والبناء عليها، وفى هذه الحالة يكون هناك تعمد واضح بالإستيلاء على أملاك الدولة، حيث يكون لدى المواطن المستفيد علم مسبق بحدود تخطيط الشارع أمامه ، من خلال إدارة التخطيط بمجالس المدن ، التى يقوم بإستخراج الترخيص منها، وتلك الفئة تمثل حوالى ١٠% من نسبة التعديات على زوائد التنظيم ، لأنها تقوم بالحصول على ترخيص من إدارة التخطيط ، وبذلك يكون لديها العلم المسبق بثوابت الشوارع التخطيطية.
وتعود ︎أسباب التعديات على زوائد التنظيم لنقاط عديدة منها ، عدم تركيز الدولة على مناطق معينة (العشوائيات) بالمدن، وعدم قيام المسئولين التنفيذيين بالمتابعة الميدانية للحاصلين على تراخيص المبانى بتلك المناطق، بالإضافة الى قلة مساحة عدد كبير من قطع الأراضى الصادر لها ترخيص البناء .
وهناك الكثير من ال︎آليات لمواجهة ظاهرة التعدي ، وذلك من خلال الرقابة المستمرة والمتابعة للمناطق التي تشهد حالات التعدى على أراضى زوائد التنظيم بكثافة، وكذلك إيقاف أى أعمال بناء تتم عليها ، والعمل على منع أى عمليات إستيلاء على تلك الأراضى ، وتجريم ذلك من خلال سن تشريعات جديدة تكون رادعة ، لمن تسول له نفسه الإستيلاء على أملاك الدولة، كما يجب ايضا أن تسهم هذه التشريعات في تسهيل وتيسير الحصول على ترخيص البناء للمواطنين، بالإضافة إلى تحديد قيمة مناسبة لسعر المتر في زوائد التنظيم، بحيث تكون عادلة وفى متناول إستطاعة المواطن المستفيد، حتى لا يلجأ إلى التعدى على مساحة زوائد التنظيم، التى تقع أمام قطعة الأرض الخاصة به ، ويحتاج إليها لإكمال بناء عقاره، كذلك يجب وضع لافتات إرشادية أمام كل قطعة أرض ، أو أى شارع تخطيطي، بالإعلان الظاهر للمواطنين الذى يفيد بأن هذا الشارع تخطيطي بعرض كذا، بحيث تكون هناك وسائل توعية للمواطنين القاطنين بتلك الشوارع والمستفدين منها، حتى يكونوا على علم كامل بالتخطيط المعتمد للشارع، ومن هنا يتم معاملتهم معاملة المعتدي الذى خالف القانون متعمدا .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أجهزة الدولة ، كانت قد قامت بعمل تصوير جوي ، ومسح كامل لأوضاع الشوارع التخطيطية ما قبل عام ٢٠١٩، مما يستوجب معه التنوية ، بأن كل من تعدى على هذه الشوارع التخطيطية التى اعتمدت قبل ٢٠١٩، يجب أن يخضع للعقوبات التى نص عليها القانون بشأن تجريم التعدى على أملاك الدولة، ولكن هناك مفارقة هامة أيضا، يجب التنوية إليها ، وهي خاصة بالتخطيط الحالى، الذى تم بناءا على التصوير الجوى فى الفترات الأخيرة من خلال أجهزة الدولة، والذى يجب أن تراعى معه الحكومة عدم معاملة كل من يقف أمام القانون موقف المتعدى بالتجريم، لأن المواطن فى هذه الحالة لم يكن لديه علم بالشوارع التخطيطية ، التى تم إستحداثها وفقا للتصوير الجوي الأخير، والأصح أن يؤخذ بهذا التخطيط الحالى فى التطوير، ويتم تنفيذ ذلك من خلال طرق مختلفة وفقا للحالات، فإذا كانت الحالة بالتخطيط الحالى فى هذا الشارع تعوق إتمام أعمال النفع العام، يتم التعويض والإزالة الفورية لصالح المنفعة العامة، وإذا كانت الحالة بالتخطيط الحالى تخص مشروعا مستقبليا، هنا يتم السماح فى هذه الشوارع بإزالة (الخللات)، وعند إصدار ترخيص المبانى بعد ذلك، يحدد خط التنظيم الجديد موقف كل حالة على حده، طبقا لخط التنظيم الموجود بالمدينة.
إن أوجه التعديات على أملاك الدولة ذات المساحات الخاصة والتى يطلق عليها ( متخللات المدن)، وهى الأراضي التى تخص المحليات بطريقة مباشرة، أو تخص الوزرات أو الهيئات أو الشركات الحكومية، المتواجدة على أراضى المحافظات، كثيرة أيضا، فهناك منها ما يتم إهماله والتواطؤ والمقايضة عليه تجاه هذه الأراضى، من خلال بعض التنفيذيين الفاسدين بتلك الجهات الحكومية، والذين يقومون بمساعدة الغير للاستيلاء عليها أو الإستفادة منها بطرق غير مشروعة، الأمر الذي يتوجب معه وقف هذا التلاعب، من خلال آليات تشديد الرقابة والمتابعة المستمرة، من قبل الأجهزة التنفيذية، والإستعانة بالجمعيات الأهلية والهيئات المجتمعية مثل( هيئة تعليم الكبار )، واشراكها فى عمليات الرقابة والمتابعة، من خلال تكليفها بالقيام برصد أى أعمال إستفادة أو تعديات تتعرض لها تلك الأراضى، والزامها بإعداد تقارير دورية عن تلك الأراضى الواقعة في نطاقها، من خلال إصدار تشريع جديد ، يتيح لها ذلك الحق فى الرقابة والمتابعة فقط لأملاك الدولة والتى تقع في نطاقها، وتحرير محاضر إثبات حالة بأقسام الشرطة ضد المعتدين عليها، وإبلاغ الجهات المختصة، والتى تتمثل مبدئيا في المحليات بجانب الجهات الحكومية المالكة والأجهزة الرقابية، فأوجه التعديات على تلك الأراضى عديدة، وهناك منها التعدي المؤقت والذى يتم من خلال إستغلال تلك المساحات كمواقف للسيارات، أو إنشاء نوع من الكافتريات منخفضة التكلفة، وهناك منها التعدى المستديم وهو الذى يتم من خلال بناء منشآت معمارية غير ثابته على تلك الأراضى .
وعلى صعيد متصل ، تتنوع أشكال التعدي على أراضى الإصلاح الزراعى ، وهى الأراضي ذات المسطحات الكبيرة، التي تتم زراعتها، حيث يتم التعدى عليها باستخدامها في الزراعة، أو عمل مشروعات إنتاجية عليها تخص المجال الزراعى، أو تقسيمها والبناء عليها بطريقة مباشرة، وهناك أمثلة واضحة كثيرة على ذلك، منها تقسيم الكثير من الجمعيات بطريق الإسماعيلية الصحراوي الذى كان أرضا خصصت للزراعة وتم التعدى عليها بتغيير غرض الإستخدام المخصص من أجله تلك الأراضى، وتحويلها إلى قطع أراضى للمبانى، الأمر الذي لا يقارن بأى حال من الأحوال بأسعار التخصيص لغرض الزراعة التى تدعمها الدولة وتحدد قيمة بسيطة لسعر الأراضى المخصصة لهذا الغرض وهو الزراعة، بل ويؤثر سلبا أيضا على مساحة الأراضي المخصصة من الدولة بهدف زيادة الرقعة الزراعية والإنتاج الزراعى الذى يمثل خطورة على الأمن القومى المصري لأنه يضرب خطط التنمية فى مقتل ويعمل على أضعاف النتائج الملموسة لمخططات الدولة عندما تتحول تلك الأراضى للبناء، وقامت أيضا تلك الجمعيات بالتعدى على الأراضى المحيطة بالأراضي المخصصة لها والمملوكة للدولة بالاستيلاء عليها، وضمها لحيازتها وبيعها للمواطنين بغرض المبانى والزراعة، فى ظاهرة تعد من أقبح ظواهر الإجرام تجاه أملاك الدولة ومقدراتها .
أما نهر النيل الذي يعتبر شريان الحياة للمصريين ، فلم يسلم هو الآخر من التعديات ، فأراضى طرح النهر يتم التعدى عليها بالزراعة والبناء عليها وإقامة المشروعات الصناعية، أمثال ورش بناء السفن، ومشاتل الزهور، بل وهناك أيضا مصانع إنتاج الطوب التى تستغل مناطق كورنيش النيل على سبيل المثال (وراق إمبابة – الحوامدية – الصف)، مرورا بشريط نهر النيل من محافظة أسوان وحتى نهايته، بهدف توفير الطمي، وكذلك تسيير وسائل النقل النيلية الأقل تكلفة.
إن إنتشار فيروس التعدي على أملاك الدولة كالسرطان، أصبح يمثل خطرا كبيرا ، فهو لم يترك أيضا أملاك الأوقاف بكافة أشكالها من (أراضى زراعية- أبنية- مستشفيات- مدارس- عقارات خاصة)، فالتعدى على أملاك الأوقاف شمل الأراضى الفضاء سواء بالزراعة أو البناء أو إقامة المشروعات عليها، بل وأخذ منحى جديد يوضح تفنن الذين يستحلون أكل أموال الدولة والشعب بالباطل، بالتعدى على العقارات الخاصة بالأوقاف، من خلال تعلية أدوار زائدة عن الإرتفاع الطبيعى للعقارات مثل (عقارات الأوقاف بشارع السودان- أرض عزيز عزت بامبابة- شارع البوهى- الدقى) ، بالإضافة إلى تعريض تلك العقارات لخطر الانهيار، بسبب عدم تحمل الاساسات بها لتلك التعليات، بالإضافة إلى أمثلة أخرى كثيرة على مستوي محافظات مصر .
إن تلك المظاهر الخاصة بمختلف أنواع التعديات ، تتجه بنا نحو البناء المخالف وخطورته، فالبناء الذى يخالف القانون سواء على الأراضى الخاصة بالمواطن، أو الأراضى المملوكة للدولة يعد من أخطر أوجه التعديات ، ولا يختلف فى الأهمية عن التعدى على أملاك الدولة، والذى يجب مواجهته من خلال فكر جديد ، يحلحل تلك الأزمة ويضع لها حدودا فاصلة تنهى هذا الواقع المرير الذى نعيشه، بعد ان تشكل على مدار عقود ماضية، فمن خلال وضع مواد قانونية تيسر على المواطن الحصول على الترخيص اللازم للبناء، ضمن آليات تعميم نظام الشباك الواحد لإنهاء الإجراءات الخاصة بالترخيص، بالإضافة إلى خفض رسوم وتكاليف توصيل المرافق وتصاريح الطرق، سوف يسهم ذلك في تشجيع المواطن للسير في إجراءات الحصول على الترخيص بشكل قانونى، وأيضا من خلال إقرار آلية جديدة لنظام سداد تكاليف توصيل المرافق، والتى يتم تقديرها وفقا للمقايسات التقديرية، بالسماح بسداد مقدم لا يتجاوز ٢٥ % من قيمة التكاليف الخاصة بتوصيل المرافق، وأمكانية تقسيط المبالغ المتبقية على الإستهلاك الشهرى لفترة زمنية لا تقل عن ٥ سنوات، ليكون ذلك حافزا من الدولة لمن يلتزم بالحصول على الترخيص قبل البناء ويحترم تنفيذ القانون .
إن وقف مسلسل التعديات على أراضى املاك الدولة ، يتطلب أيضا تعديل القانون رقم ١١٩ لعام ٢٠٠٨، من أجل إدخال مواد تسمح بتنفيذ تلك المقترحات، وتعديل الأحيزة العمرانية، التى تحدد الكتلة السكنية للمدن والقرى والأحياء، بحيث تشمل الأراضى المحيطة بالكتلة السكنية، وتبعد عن المساحات الزراعية(وتكون أرض بور)، لضمها للاحيزة العمرانية الحالية، من أجل حمايتها من التعديات، وتوفير أراضى للبناء عليها للمواطنين بتلك المدن، وتحديد الحدود الجغرافية لكل مدينة أو حى أو محافظة، على أسس جديدة تتوافق مع الأوضاع الحالية للمدن .
إن الحفاظ على أملاك الدولة مهمة قومية، تتطلب تضافر كافة الجهود، والتنسيق بين كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، بهدف الإستفادة من تلك الثروة العظيمة، وذلك من خلال تهيئة البيئة القانونية الملائمة، وتدعيم كافة الأجهزة المعنية، لتسهيل مهمتها في تعقب المجرمين، الذين يقومون بالتعدى على أملاك الدولة والإستيلاء عليها، ومحاسبتهم حسابا عسيرا، حتى يكون العقاب رادعا، وناهيا لتلك الجرائم النكراء، التى تمثل تهديدا لحقوق الأجيال القادمة، والعبث بمقدرات الدولة المصرية وشعبها، فاعادة ثروات مصر المنهوبة من هؤلاء المحتالين الذين كونوا ثروات طائلة وأفسدوا البلاد والعباد هو الخطوة الأولى ، التى يجب أن تخطوها الدولة المصرية ، حتى يستقر فى عقيدة الجميع ، أن الهروب بمقدرات وثروات الوطن لن يفلح مهما طال الزمان .