إن الحصول على مبدأ الاستدامة أولاً يتمثل بشكل عظيم في عملية الاستخدام الصحيح لموارد المنطقة، فإن الثقافة يجب أن تكون منتشرة بشكل كبير في صلب الاستراتيجيات، لأن الثقافة تشكل المكان الأساسي للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، كما تشكل المنظم الحيوي السلوكي لعلاقاتهم بالبيئة والموارد الطبيعية التي تحيط بهم.
تعتبر الثقافة بعدا ربعا يضاف للأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي يبنى عليها مفهوم التنمية المستدامة، الذي يضع الفرد في قلب اهتمامات العملية الاقتصادية، أين لا يمكن تحقيق هذه الهدف إلا من خلال المرور عبر البعد الثقافي، والذي بدوره يسمح بنشر مبادئ التنمية المستدامة والمسؤولية البيئية والاجتماعية من خلال الاحتكاك الكائن بين الثقافات المختلفة من زوية تعدد وتنوع الثقافات.
وتستند الفلسفة المحركة لساحة الثقافة إلى التواصل بين مختلف الحضارات وتكاملها في نقطة محورية في مصر. فهي بمثابة نقطة تلاقي الشرق والغرب والشمال والجنوب على أرض مصر، ملتقى الحضارات. فبوسع كل الثقافات والأفكار أن تندمج معًا هنا في سلسلة من الندوات والفعاليات والعروض الفنية وما إلى ذلك، من أجل إثراء المنطقة بمجموعة متنوعة من الأفكار والفنون والثقافات لتصبح ساحة الثقافة في النهاية منارة للمجتمع.
الثقافة هي ما نحن عليه وما يشكل هويتنا. الثقافة عامل لا غنى عنه لأية تنمية مستدامة. بداية من التراث الثقافي وصولاً إلى الصناعات الثقافية والإبداعية، الثقافة تمكّن وتقود على حد سواء الأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية و البيئية للتنمية المستدامة.
تعد الثقافة المركز الوجداني في حياة الجماعات والأمم في جميع أنحاء العالم، وإن كانت التنمية تعمل بشكل جوهري على تدعيم مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبداً أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجتمع، فالثقافة تلعب دوراً محورياً في العملية التنموية، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان من المفكرين أو الباحثين في الميدان التنموي المعاصر.
ولهذا السبب، فإن التقاليد القديمة التي تتعلق بإدارة الموارد البيئية واستعمالها، بما في ذلك تقنيات المباني، تتجه إلى أن تكون خضراء، أي محافظة على البيئة بوجه عام في تصاميمها، وهي بذلك تجسد نمطاً أكثر استدامة من حيث استخدام الأراضي واستهلاكها وإنتاجها.
وهذه العادات الثقافية تسهم أيضاً في انتشار الأمن الغذائي والوصول إلى المياه، وذلك كله يأتي استناداً إلى المعارف والممارسات التي تطورت على مدى قرون من التكيف البيئي للإنسانية، ومن هنا فإن أي سياسة محلية تهدف إلى حماية البيئة الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة، ويجب عليها بالضرورة أن تأخذ بعين الاعتبار الخبرات الثقافية المتراكمة وأن تستفيد من التجارب الحيّة للمجتمعات الإنسانية.
تشكل الثقافة في جوهرها قوة ديناميكية للتغيير وهي ليست مجموعة جامدة متصلبة من الأشكال والصيغ التي تفرض صورتها وقيودها على الأفراد في المجتمع، بل هي حالة مستمرة من التفاعل والتناغم الدائم القائم على أساس التغير التفاعلي المستمر في مختلف مستوياتها وعناصرها. فأفكار الناس وتصوراتهم ونظرتهم وأنماط استجابتهم نحو العالم تتغير – كثيرا أو قليلا – في إطاري الزمان والمكان
، وهذا التغير يشمل مختلف أشكال التعبير الثقافي وأنماطه الاجتماعية. فعصر العولمة يعرف بتسارعه الهائل، وتكاثفه على صورة تدفقات هائلة لرأس المال والعمل والميديا والمعلومات، ويؤثر بقوة وعلى نحو متجانس في مختلف الثقافات المحلية وينحت فيها. ومع أن هذا التأثير يحقق نوعا من التكامل فيما بين الثقافات المحلية، ويوفر فرصا نادرة وجديدة لملايين الناس في مجال العمل،
فإنه في الوقت ذاته يؤدي إلى تدمير المكونات الثقافية التي تتفرد بها الثقافات المحلية وتتمايز، كما أنه يفقد هذه الثقافات هويتها الخاصة وقدرتها على الاستمرار والمنافسة. وغالبا ما يكون هذا التأثير أكبر واشد وأخطر إزاء ثقافات المجتمعات التقليدية التي تتعرض لصدمة الحداثة العالمية الجديدة المدمرة وفق نماذج ثقافية جديدة خارجية مختلفة تفرض نفسها بقوة صادمة لكل معايير الخصوصية الثقافية لهذه البلدان.
وعليه، فالتنمية هي آلية التطور والتقدم والازدهار، وتتخذ مستويات عدة، وتتجلى سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا. ومن ثم، تهدف التنمية إلى الرفع من المستوى المعيشي للإنسان ماديا ومعنويا وروحيا، بتوفير التعليم اللائق، والصحة الضرورية، والدخل المناسب، وإيجاد العمل الذي يتلاءم وقدرات ذلك الإنسان، ويتناسب مع كفاءاته المعرفية والمهارية، مع مراعاة حقوقه الطبيعية والمكتسبة.
و” تمثل التنمية حركة النسق الاجتماعي، بما يحتويه من عوامل اقتصادية وغير اقتصادية بشكل واسع، إلى أعلى أو إلى أحسن، في إطار من العلاقات السببية الدائرية بين مختلف المتغيرات المخططة الداخلة في عملية التنمية.
وكأن التنمية بذلك تعني عملية التغيير المقصود، والجهود المنظمة التي تبذل وفق تخطيط مرسوم، بقصد تحقيق مستويات أعلى للدخل ومستويات أفضل للمعيشة.
ومن ثم، تكون التنمية بمثابة إرادة مجتمعية تأخذ بالمجتمع في حالة التخلف إلى حالة من التحول التنموي على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالتنمية عملية متعددة الأغراض والجوانب، وتتضمن تغييرات في البناء والقدرة الناتجة عن تعبئة الموارد والإمكانات المتاحة.”
ومن هنا، فقد ركز تقرير التنمية البشرية لهيئة الأمم المتحدة على ثلاثة مؤشرات للتنمية البشرية، وحصرتها في: العيش حياة طويلة وصحية، والحصول على المعرفة، وتوفر الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق. ولا تقف التنمية عند هذه الحدود الثلاثة، بل تضيف امتيازات أخرى، مثل: الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوافر فرص للإنتاج والإبداع، والاستمتاع باحترام الذات، وضمان حقوق الإنسان. ويعني هذا أن التنمية الحقيقية هي التي تحقق الحرية والعدالة والكرامة للإنسان في مجتمع ديمقراطي مبدع.
إن هدف التنمية البشرية المستدامة ليس مجرد زيادة الإنتاج، بل هو تمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم ليعيشوا حياة أطول وأفضل، وليتجنبوا الأمراض، وليملكوا المفاتيح لمخزون العالم من المعرفة إلى آخر ما هنالك.
وهكذا، تصبح التنمية عملية تطوير القدرات لا عملية تعظيم المنفعة أو الرفاهية الاقتصادية كما ينظر إليها اليوم. فالأساس في التنمية البشرية المستدامة ليس الرفاهية المادية فحسب، بل الارتفاع بالمستوى الثقافي للناس بما يسمح لهم أن يعيشوا حياة أكثر امتلاء، ويمارسوا مواهبهم، ويرتقوا بقدراتهم. ويتضح هنا مثلا أن التعليم والثقافة يحققان فوائد معنوية واجتماعية، تتجاوز بكثير فوائدهما الإنتاجية، من احترام الذات إلى القدرة على الاتصال بالآخرين على الارتقاء بالذوق الاستهلاكي.”
وعليه، تنبني التنمية المستدامة على أربعة عناصر مهمة هي: الإنتاجية الإبداعية في مختلف الميادين والمجالات المادية والمعنوية والروحية، وتطبيق حقوق الإنسان، سيما المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، دون تمييز لوني أو ثقافي أو لغوي أو ديني أو عرقي، وتمثل سياسة الاستدامة بأن تكون التنمية غير مقتصرة على الحاضر،
بل تمتد إلى المستقبل عبر خطط استراتيجية قريبة أو متوسطة أو بعيدة، من خلال التفكير في أجيال المستقبل، وإعداد تدبير ناجع مستقبلي، يعتمد على الاكتفاء الذاتي، والتصنيع المحلي، والتنوع الثقافي، والاهتمام بالتنمية الاقتصادية الشاملة، والابتعاد عن الاستدانة الربوية، والتبعية المنتروبولية، واقتصاد الريع، والاستهلاك غير المنتج، وتخريب البيئة وتلويثها. علاوة على تمكين الأفراد والمجتمع المدني من المساهمة الفاعلة في التنمية البشرية المستدامة عن طريق المشاركة والمساهمة الفعلية.
إن الثقافة جزء لا يتجزأ من الحضارة، وهي نقيض التكنولوجيا المادية، مادامت تهتم بما ليس ماديا أو تقنيا، مثل: الآداب، والفنون، والتراث، والعادات، والتقاليد، والأعراف، والقيم، والدين، وغير ذلك.
وللثقافة علاقة جدلية مع التنمية بصفة خاصة، كما لها علاقة سببية وتفاعلية مع التنمية البشرية المستدامة بصفة عامة. وقد أصبحت الثقافة – اليوم- جزءا أساسيا من التنمية الشاملة، إذ لا يمكن لأي تخطيط مستقبلي، في مجال التنمية، أن ينجح في غياب المقاربة الثقافية التي أصبحت – اليوم- تساهم بشكل كبير في الرفع من مستوى الأفراد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلميا وتربويا.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان