تسعى المقاربات الجغرافية الثقافية التقليدية لدراسة الدين بشكل أساسي إلى تحديد تأثير الدين على المشهد الطبيعي. لا يبرز نهج أكثر حداثة لدراسة تقاطعات الجغرافيا والدين دور الدين في التأثير على تغيرات المناظر الطبيعية وفي تحديد المعاني المقدسة لأماكن محددة، ولكنه يقر أيضًا كيف يتم توجيه الإيديولوجية والممارسة الدينية في أماكن محددة بدورها وتحولت من قبل موقعهم.
تحول الخبرات الدينية والإيمان بالمعاني الدينية المساحات المادية إلى أماكن مقدسة. تؤثر هذه التصورات والخيال على الطريقة التي يتم بها استخدام هذه المساحات، وتطور المعاني الروحية الشخصية في استخدام هذه الأماكن المقدسة. تتجاوز هذه المساحات الدينية الهامة المساحات الدينية / الروحية (مثل أماكن العبادة) لتشمل المساحات الدينية غير الرسمية مثل المنازل والمدارس وحتى الهيئات. ركزت هذه الأعمال على كل من الجوانب المادية للمساحات (مثل التمييز المعماري) والمساحات المبنية اجتماعيًا (مثل الطقوس وترسيم المساحات المقدسة) لتقديم معنى وأهمية دينية.
كثيرا ما يطرق اسماعنا مصطلح الجغرافية الدينية ،والتي عدها بعض الباحثين فرعاً من الجغرافية الاجتماعية ، ويعد البعض الأخر فرعاً من الجغرافية الحضارية ، لأنها بصفة خاصة تكون مهتمة بنواحي الحضارة المادية واللامادية في إطارها الزماني ، لذلك يكون توزيع المعتقدات والديانات وتحليل علاقة البيئتين سواء كانت طبيعية أو بشرية في ظهورها وانتشارها فهي بحد ذاتها تكون مؤثرة .
وما تعالجه الجغرافية الدينية لمعتقد ما يكون على أساس البحث عن أصل الديانة والأنظمة المرتبطة بها ، ومراحل هذه المعتقدات من تطور في أشكالها العبادية حتى ظهورها يشكل انعكاسات وتأثيرات على البيئة والاقتصاد والسياسة ، ثم يتحول ذلك التأثير إلى مؤثر فعلي على المجتمع بحد ذاته ،
فضلاً عن ذلك أن ما تفرزه تلك الديانة أو المعتقد من أثار وثقافة تفصح عن الدقة الجغرافية ، بعدد من معتنقيها ومدى ما يحملوا من أبعاد ثقافية تبعاً لها . فالإنسان يكون في منزلة من تجسيم الأمور المعنوية وسبك غير محسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أي قوة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها ،
لذلك فان روح الشرك والوثنية سارية في المجتمع الإنساني سراية تكاد لا تقبل التحرز والاجتناب حتى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتى المجتمعات المبنية على أساس رفض الدين ، فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثل العهود الأولى والإنسان الأولي .
فالمعتقد لدى الإنسان البدائي عرفته نفسه من خلال ما يخافه من الشرور المحيط به ، ولم يعلم أسباب حدوثها والمؤثرات التي تنبع عنه ، لذلك اتسع عنده الخيال والجزع وكثر لديه الوساوس والأوهام ، فنراه يلتجئ إلى قوى اكبر منه وأقوى وحسب معتقده لكي يحميه من الآفات والشرور والعلائم السماوية والأنواء الجوية قديما ولاسيما في العراق القديم ، فالتجائه إلى رئيس قبيلة أو شيخ أو ملك أو الإله مثلاً كان لالتجائه هذا هو اعتقد بقوته واطمأن أليه إذ كلما اتسعت تلك المخاوف والأوهام والوساوس اتسع معه المعتقد من وثنية ثم دينية تصبح . فالمعتقد هو الإيمان يستقر في قرارة نفس الإنسان تسوقه إلى العمل دون تفكير وتمحيص على القبول إلى طريقة أو فكرة أو مذهب وتكون خارجة عن مصدر الفكر ،
بل أصبحت بمعزل عن التفكير العقلي وان كان ينافي ذلك المعتقد العقل ، لما يحمله ذلك المعتقد من خرافة لا يتصوره العقل اللبيب ، فكانوا يصورن ذلك بزعمهم أن هذه الأشياء مهبطاً لقوة غيبية أو رمز لسر غامض يستوجب منهم التقديس البليغ ، فهي بنظرهم أشبه بالشيء بالتمائم والتعويذات التي يتفاءل أو يتبرك لها الإنسان كونه سيدفع بها شيئاً من الحسد أو السحر ،
لا على أنها خاصية ثابتة كامنة فيها كمون النار في الرماد ، أو أن لها قوة طبيعية كقوة مغناطيسية ، بل على أن ورائها أو حولها روحً عاقهاً مدبرة مستقلة الإرادة . ويبرز الدور الذي تلعبه العاطفة الدينية المبنية على أساس غريزي لدى الإنسان من حب وخوف راسخ بقوة النفس الإنسانية تكون لها دور فاعلا في ذلك ، فيرى ذلك الإنسان أن بمقدور ذلك المعتقد الذي يعتبره كقوى اكبر من أن يفسر سير الأمور ومجرى العادات بحيث تعطي وتمنع ، ويضر وينفع ، وان تلك المواد المشاهدة ما هي في اعتقادهم ألا مظهر ومطلع يطل منه هذا الروح الخفي
ويبارك من يتمسح بها من هياكل أو أصنام أو غيرها التي يتخذها له مظهراً ولوناً من ألوان العبادة والتقرب أليها ، ووضعوا لها أسماء وصفات ووصفوها بأشكال خاصة وخاطبوها بألسنتهم وبقلوبهم ، وتودد أليها أي الإله وكسب رضاها لأنها – كما قلنا سابقا – عدت اقدر من الإنسان كان لازماً على المتعبد التودد بطرق شتى معبرة عن معان التقرب والتعظيم لتتذكره فتحن عليه بالخير والبركة من جانب ،
ومن جانب أخر يقوم العبد المتعبد [ أي الإنسان] بتقديم الواجبات التي تفرضها عليه الحياة الدينية اتجاه [آلهته] في أوقات معينة من تقديم نذوروقرابين وأداء الصلاة ومعرفته بمناسك الحج، كل ذلك يعتبر من المناسك التعبدية ، فتكون تلك العبادة وثنية المعتقد لأنها تمثل عبادة الأنصاب والتماثيل والأوثان والأصنام ، ولا سيما أنها قد انتشرت في بلاد العرب قديماً في الجزيرة العربية والعراق بوجه خاص واتخذوها وجعلوا لها معابد وهياكل للتعبد والاستغاثة ،
واتخذوا لها إبطالاً بشرية لتكون وسائط بين السماء وبينهم ، بحيث خرجوا عن دائرة التوحيد والتنزيه فوصلوا إلى عبادة الرموز والأوثان . مراجع المقال -محسن عبد الصاحب المظفر ، جغرافية المعتقدات والديانات – مبادئ وأسس محتوى منهج تحليلات مكانية. -إبراهيم محمد ، ابراهيم الأديان الوضعية في مصادرها المقدسة وموقف الإسلام منها . – جواد علي ، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ، الجزء السادس . -الدملوجي ، فاروق ، تاريخ الأديان الألوهية وتاريخ الآلهة. -محمد حسين الطبطبائي ، تفسير الميزان . -محمود شريف ، الأديان في القرآن .
التركيز الرئيسي في دراسة الأماكن المقدسة هو سياسة الهوية والانتماء والمعنى التي تُنسب إلى المواقع المقدسة، والمفاوضات المستمرة من أجل السلطة والشرعية. في الأوساط متعددة الثقافات، تشكل المسابقة للشرعية والموافقة العامة والمفاوضات المتعلقة باستخدام مساحات معينة في صميم تحديد كيفية فهم المجتمعات واستيعابها وصراعها للتنافس على الحق في ممارسة تقاليدها الدينية في الأماكن العامة.
امتلكت جميع الأديان تصوراً خاصاً للعالم، رسمت على علائمه خريطة فصلت فيها المقدس والجليل عن المبتذل والعادي، والسماوي عن الأرضي، والشعري الملحمي عن النثري، فرفعت في هذه الثنائية الأول على حساب الثاني، بعد أن أضفت على بعض الأماكن معنى رمزياً كثيفاً مليئاً بالإجلال والقداسة،
بحيث يتحول هذا المكان إلى وسيط رمزي يلبي حاجة الجماعة المؤمنة إلى الاتصال بالمتعالي ومعانقته، أو التقرب منه، فتُحول الجماعة المؤمنة –
تبعاً لذلك –فضاءها الكوني، المليء بالغموض واللامعقولية، إلى عالم مشبع بالمعاني والمعقولية، يحتل فيه “مكانها المقدس” موقع المركز والقلب لذلك الفضاء الكوني. لهذا تواجه الجماعات الدينية مشكلات على صعيد العيش المشترك عندما تلتقي على تقديس مكان بعينه (جبل أو مدينة)، وتنشأ المشكلة حينما تسعى كل جماعة، على حدة، على استحواذ هذا المكان، وإقصاء الأطراف الأخرى منه، والمثل الصارخ على ذلك هي علاقة الأديان التوحيدية الثلاثة بمدينة القدس، التي نظرت إليها على أنها قلب جغرافيتها المقدسة، ويمدُّنا الموقف النظري لهذه الأديان من بعضها، وممارستها العملية للسيادة، عندما تكون في موقع المسيطر السياسي على المدينة، بصورة عن موقف كل منها من فكرة العيش المشترك.
فالديانة اليهودية لا تعترف، على الصعيد النظري، بالمصدر السماوي للديانتين المسيحية والإسلامية، بينما تعترف المسيحية بالشرعية السماوية لليهودية، مع التأكيد على انحرافها ومسؤوليتها على صلب المسيح، إلا أنها تنكر على الإسلام شرعيته، ويتميز الإسلام باعترافه المسبق بالديانتين (المسيحية واليهودية) كديانتي وحي، ويوصي بالتعامل مع أصحابهما على أنهما “أهل الكتاب”، ولقد تعامل مع رموزهما الدينية بإجلال ومهابة.
فانطلاقاً من اعتقاد المسلمين بأن خط النبوة المنطلق من إبراهيم الخليل، إلى محمد ، مروراً بموسى واسحق، ويعقوب، وداوود، وسليمان، وعيسى بن مريم، هو حلقات من سلسة العائلة الإبراهيمية النبوية، فقد بجَّلوا جميع الأماكن التي تذكرهم بتلك العائلة المباركة، أو تُقرن بها، ورفعوا من شأن كل الرموز الدالة على الجغرافية المقدسة للديانتين المسيحية، واليهودية، بالمقابل فإن اليهودية لم تعترف بقداسة الجغرافية المقدسة للمسيحية، ناهيك عن الإسلامية.
على هذا يمكن القول: إن مفهوم الجغرافية المقدسة يزداد ضيقاً عن استيعاب رموز القداسة عند الديانات الأخرى واحترامها، كلما انتقلنا من الإسلام، إلى المسيحية وصولاً لليهودية، ويتسع طرداً ليشمل رموز القداسة عند الديانتين الأخريين، كلما انتقلنا من اليهودية إلى المسيحية، وصولاً إلى الإسلام.
فاليهودية تنكر الطابع المقدس للأماكن المقدسة للديانتين الإسلامية، والمسيحية في القدس، في حين أن المسيحية تقتصر على دمج بعض الأماكن المقدسة اليهودية في مجالها المقدسي وحسب، بينما نجد الإسلام، الذي اعترف بتعدد تجليات الوحي وبأنبياء الديانتين الأخريين، فإنه شارك الأديان التوحيدية (أهل الكتاب) مباركتهم رموزهم المقدسة في القدس، وبجّلها. انعكست تلك المواقف “النظرية” على الممارسة العملية، وظهرت تبايناتها في الطريقة التي مارس فيها كل من أصحاب تلك الأديان سلطته على القدس وعلى أماكنها المقدسة وعلى أصحابها، عندما كان في موقع السيادة.
حرَّم الرومان منذ تيطس عام 70م على اليهود دخول القدس وهدّموا هيكلهم ثم أتى هادوريان عام 136م فأكد هذا الحرمان، وأكدت السلطات المسيحية أيضاً هذا الحرمان، في زمن قسطنطين في القرن الرابع، واستمر هذا الحال حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع،
أما التجربة المسيحية الغربية الأخرى، كما جسدها الصليبيون، الذين افتتحوا ممارستهم نحو العلاقة بالآخر، بقتل جميع المسلمين واليهود عند دخولهم القدس، فقد تجلّت بأن حرموا على المسلمين واليهود دخول المدينة المقدسة، وطمسوا المعالم الإسلامية، وحولوا المسجد الأقصى، ومسجد القبة إلى كنائس، ومكان لقيادة الداوية، وإسطبلا لخيولهم، فجسدت المسيحية الغربية في المرتين موقفاً إقصائياً نافياً للآخر، ولمفهوم العيش المشترك.
أما التجربة اليهودية، فقد جسدتها سياسة الاحتلال الصهيوني للقدس، حيث أعلنت على الملأ، ومارست على الأرض، سياسة تهويد للمدينة المقدسة، وطمس للمعالم المقدسة الإسلامية، وهجرَّ سكانها العرب، مسلمين، ومسيحيين، غير آبهة بقيم العصر، ولا بكثافة الوجود العربي المحيط بها.
تتميز التجربة العربية الإسلامية في إدارة القدس منذ الفتح العمري، في أنها تقوم على الاعتراف بحق أهل الكتاب، يهود، ومسيحيين، في العيش المشترك في المدينة المقدسة، وحقهم في إقامة شعائرهم في أماكنهم المقدسة، فلقد أبطل المسلمون القرار البيزنطي الذي يقضي بمنع اليهود من دخول القدس، وأمنَّوا المسيحيين على أموالهم وأنفسهم، وكنائسهم، كما هو واضح في العهدة العمرية.
ولقد كرَّر صلاح الدين السلوك العمري نفسه عند دخوله القدس عام 1187م، على الرغم من مرارة التجربة الصليبية، فجعل المدينة مفتوحة لأبناء الديانتين، المسيحية، واليهودية، لإقامة شعائرهم الدينية في دور عبادتهم، وشجع المسيحيين العرب، والمسيحيين الشرقيين، الذين اضطهدتهم الفرنجة،
على الإقامة في القدس، وظلت تلك المبادئ القائمة على قاعدة الاعتراف بالآخر، ومبدأ العيش المشترك، هي الإطار الناظم للاجتماع البشري في القدس، حتى طرق باب فلسطين المشروع الصهيوني الذي اتخذ موقفاً إقصائياً، لصالح تهويد القدس ليكرر بذلك التجربة الصليبية، سيئة الذكر والمصير.
قد يكون الدين نقطة انطلاق لدراسة قضايا تكوين الهوية العرقية وبناء الهوية العرقية وغالبًا ما يهتم الجغرافيون الذين يدرسون مفاوضات الهوية الدينية داخل مجتمعات مختلفة بالتعبير العلني للهوية الدينية، على سبيل المثال، كيف ينتصر الأتباع في اختلاف تقوم المواقع بتأسيس هوياتها (الدينية والثقافية) المميزة من خلال فهمها للدين وكيفية تقديمها خارجيا لالتزامها الديني (من حيث الممارسة الدينية والطقوس والسلوك). كموضوع عام، يتعلق التعبير عن الهوية الدينية بالجوانب المادية التي ترمز إلى الهوية الدينية (مثل الهندسة المعمارية وإنشاء وجود مادي) ، مع المفاوضات والصراعات في تأكيد الهوية الدينية في مواجهة الاضطهاد والاستبعاد ومع الشخصية ممارسات الطقوس الدينية والسلوكيات التي تعيد إثبات هوية الشخص الدينية
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان