نعيش حاليا أجواء روحانية بمناسبة بداية موسم الحج والعشر الاوائل من شهر ذي الحجة .هي أجواء مهيئة لكي يبادر كل منا بالتطوع ببعض من وقته أو جهده أو فكره أو ماله للصالح العام ، خاصة وأن بلدنا تحتاج في هذه الظروف إلي كل جهد مخلص للمساهمة في تجاوز الصعوبات التي تواجهنا.
لفت نظري احصائية وردت في كتاب (كتاب ثقافة العمل الخيري) للدكتور عبد الكريم بكار تقول: “في أمريكا 94.2 مليون متطوع. قدموا 20.5 مليار ساعة عمل تعادل إنتاج 9 ملايين موظف متفرغ، وذلك خلال عام واحد”. كما يوجد في أمريكا أكثر من 1.5 مليون مؤسسة خيرية غير ربحية، وتستقبل المؤسسات الخيرية سنويا من الأموال ما يزيد على 200 مليار دولار أمريكي”. وأوضح الكتاب أيضا في بريطانيا أكثر من 20 مليون شخص من البالغين يمارسون نشاطا تطوعيا منظما كل عام، وتبلغ ساعات العمل التطوعي الرسمي نحوا من 90 مليون ساعة عمل كل أسبوع، وتقدر القيمة الاقتصادية للتطوع الرسمي بـ 40 مليار جنيه إسترليني سنويا..
وتلك الإحصائية تحمل معاني كثيرة أهمها الولاء والإنتماء والحب للوطن والذي يدفع المواطنين في تلك الدول للعمل طواعية لخدمة مجتمعهم. بعد أن يقوموا بعملهم الذين يحصلون مقابله علي أجر علي الوجه الأكمل. كما وتكشف أيضاً عن أسباب نمو هذه المجتمعات وتقدمها..
وأجد نفسي مضطرا للمقارنة وأنا أشهد كيف يتفنن غالبية العاملين في الدول العربية والإسلامية في إضاعة وقت العمل الذي يحصلون في مقابله علي راتب شهري. والذي يذهب ليراجع أي مصلحة حكومية يمكنه أن يتأكد من ذلك الاهمال بنفسه.. وتكشف احصائية أن متوسط إنتاج العامل في الدول العربية يتراوح بين 27 و60 دقيقة يومياً. ويشير تقرير حالة التطوع في العالم الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للمتطوعين عام 2018 أن إجمالي عدد المتطوعين في مصر يصل إلى 1.7 مليون متطوع. ووفقا لتلك األرقام فإن نسبة المشاركين في التطوع لا تتجاوز 2.85 % من تعداد السكان فوق 15 عام. ووردت هذه الاحصائية في دراسة ( سياسة العمل التطوعي في مصر ) للدكتور عبد الله فيصل كلية تجارة جامعة أسيوط.
بينما بلغ عدد الجمعيات الأهلية التي تقوم على العمل التطوعي في مصر حوال 50572 جمعية عام 2019، وفقا لدراسة نشرت على موقع الهيئة العامة للاستعلامات تحت عنوان :” واقع العمل الأهلى فى مصر الفرص والتحديات”.
ونظراً لأهمية العمل التطوعي وضرورته في تقدم الأمم نجد الدول المتحضرة تكرس ثقافة التطوع حتي ولو كرها فهناك عقوبات لنوعية من الجرائم يتم تنفيذها في الخدمة العامة. ومنها على سبيل المثال الحكم الذي صدر علي برلسكوني رئيس وزراء إيطاليا السابق عام 2014 بقضاء عام في خدمة مؤسسة لرعاية المسنين من ذوي الإعاقة. كفترة عقوبة بعد إدانته بتهمة التهرب الضريبي.
وأشد ما يؤلمني هو غياب ثقافة العمل التطوعي في غالبية مجتمعاتنا العربية والإسلامية رغم أنه مبدأ إسلامي أصيل.. فيقول الله سبحانه وتعالي في القرآن الكريم: “يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون” سورة الحج: الآية 77 ويقول جل جلاله: “وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين” سورة الأنبياء الآية 73 فالشرع الحكيم ربط بين العبادات وفعل الخيرات الذي يفتح الباب علي مصراعيه لكل عمل فيه خير ويتأصل العمل التطوعي في أعمال وأقوال قدوتنا الرسول صلي الله عليه وسلم فيقول في الحديث الشريف: “كل سلامي من الناس عليها صدقة. كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة. ويعين الرجل علي دابته فيحمله عليها متاعه صدقة.. ويميط الأذي عن الطريق صدقة” ويقول في حديث شريف آخر: “تبسمك في وجه أخيك لك صدقة. وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة. وإرشادك الرجل في أرض الظلال لك صدقة. واماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة. وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة.
ونشر ثقافة العمل الخيري التطوعي يحتاج خطة عملية وعلمية وأتفق مع وجهة نظر المفكر والداعية الدكتورعلي عمر با دحدح أن هذه الخطة تقوم علي ثلاثة محاور. أولها: المحور الثقافي المعرفي بنشر ثقافة التطوع والتعريف بمفاهيمه من خلال مناهج التعليم الأساسية والجامعية نظريا وعمليا. وعبر وسائل الإعلام بشتي أنواعها. فضلا عن كونه جزءاً من رسالة المسجد ودور العبادة. وقبل ذلك ومعه أن يدخل التطوع ضمن مفاهيم التربية الأسرية داخل البيوت.
وثانيا المحور التأهيلي التدريبي. بتأهيل المتطوعين وتدريبهم في مجالات التطوع المختلفة. عبر دورات الصحة العامة والإسعافات الأولية في القطاع الصحي ودورات طرق التعليم لمحو الأمية والتدريب علي العمل الاغاثي وأعمال الانقاذ في الكوارث. وصولا إلي التدريب علي الإرشاد الاجتماعي والعلاج النفسي.
وثالثها المحور التنظيمي القانوني. ويري أنه أكثرها أهمية وهو متعلق بإعطاء الصفة القانونية للراغبين في العمل التطوعي وخدمة المجتمع. وأن تسهل الإجراءات وتشجع المجموعات علي تأسيس مؤسسات وجمعيات لخدمة المجتمع في شتي المجالات والتخصصات.
وفي الختام أؤكد أن للعمل التطوعي فوائد كثيرة وأهمها من وجهة نظري التقارب بين أفراد المجتمع ،وإعادة الثقة في المقدرة الذاتية للأفراد علي تحقيق الإنجازات والقضاء علي روح الاتكالية واليأس والقنوط. وأنه بالمشاركة التطوعية يمكن تغيير بعض الاتجاهات أو التقاليد السائدة التي قد تقف عقبة في سبيل التنمية حينما يختار المواطنون بأنفسهم التغيير ويحددون اتجاهه ويرسمون وسائل إحداثه ويشاركون بجهودهم التطوعية في تنفيذه.. اضافة إلي أن المتطوعين سيصبحون أكثر إدراكا لحجم المشاكل والاحتياجات وحجم الإمكانات المحلية المتاحة فتتولد أفكار جديدة للموازنة بين الموارد والفرص وبين الاحتياجات.
aboalaa_n@yahoo.com