روى الزعيم نيلسون مانديلا رئيس دولة جنوب إفريقيا الراحل في مذكراته أنه ذات يوم كان يتناول الطعام في مطعم عام. وأثناء جلوسه رأى رجلا يحاول أن يتخفى منه ، فطلب مانديلا من أحد مساعديه أن يدعوه لتناول الطعام مع الرئيس . ولبى الرجل الدعوة وكان الأكل يتساقط من فمه بينما ترتعش يديه. وبعد الخروج من المطعم وذهاب الرجل الى حال سبيله، قال أحد مساعدي الرئيس أن الرجل الذي دعوته لتناول الطعام كان مريضا . فأجاب الزعيم مانديلا وهو يبتسم قائلا : “هذا الرجل كان السجان الخاص بي وأنا بالسجن وكان يشرف على تعذيبي ، وكان يرتعد خوفا أن أعتقله كي أنتقم منه . ولكن ثقافة الانتقام تدمر المجتمعات بعكس ثقافة التسامح التي تبني مجتمعات متحضرة وآمنة “.
رغم أن مانديلا عاش مراحل طويلة من حياته وهو يعاني من الظلم والاضطهاد في ظل نظام حكم عنصري حيث تتحكم في الدولة أقلية بيضاء تحصل على كل شئ وتضطهد الأكثرية من السود وتعتبرهم في مرتبة أقل .وتم فصله من كلية الحقوق لمشاركته في الإحتجاجات الطلابية ضد التمييز العنصري ، ولكنه لم يستسلم وأكمل دراسة القانون بالمراسلة وافتتح بعد تخرجة مع زميل أسود أول مكتب محاماة للدفاع عن السود .
وبسبب نضاله ضد التمييز العنصري داخل وخارج جنوب افريقيا تم سجنه لمدة 28 عاما من عام 1962 حتى عام 1990.
وبعد خروجه من السجن قاد مفاوضات مع أركان النظام العنصري أسفرت عن وضع دستور جديد ينهي عنصرية البيض وفي عام 1994 تمّ انتخابه رئيساً للبلاد، ليكون أوّل رئيس أسود لجنوب إفريقيا. وقاد عملية مصالحة وطنية وتحولاً ديمقراطياً، رافضاً كل أشكال الانتقام وإعادة فتح ملفات الماضي البغيض. وكل من يزور جنوب افريقيا يمكنه ان يشاهد دولة قوية متحضرة في كل المجالات ويتمتع مواطينيها بالحرية ويحكمها نظام ديمقراطي .
وقد أطلقوا على مانديلا مسمى “أيقونة التسامح” وقال عنه أسطورة الملاكمة العالمي محمد على كلاي : ” كان رجلا لا يمكن تقييد روحه بالظلم والعنصرية ، والقضبان الحديدية، أو عبء الكراهية والإنتقام ، لقد علمنا المغفرة على نطاق واسع”.
وقال عنه الأسقف توتو أسقف جنوب إفريقيا : “لقد خرج مانديلا من السجن شخصا عظيما ، شخصا يتحلى بالرحمة ، رحمة كبيرة حتى تجاه مضطهديه “.
أما عن تأثير ثقافة التسامح على نهوض المجتمعات فأكدتها دراس علمية نشرتها مجلة ( دراسات في الخدمة الإجتماعية والعلوم الإنسانية ) والتي أثبتت وجود علاقة ايجابية طردية بين التسامح وزيادة نسبة العمال الموهوبين وتحقيق التنمية الاقتصادية والقدرة التنافسية.
وتعددت مفاهيم التسامح ولكني أميل إلى أن التسامح فضيلة دينية ، وقيمة أخلاقية، وقيمة للعدالة، ومطلب للرشد والعقل ، ويقوم علي مبادئ أخلاقية معينه ؛ تعتمد هذا المبادئ علي عدم انتهاك البعد الإنساني للآخرين، وأن هذا المفهوم تتم ترجمته في صوره سلوكيات اجتماعية عقلانية بغض النظر عن عواطف المرء ومزاجه الشخصي “.
وعندما نتطلع حولنا نلاحظ غياب ثقافة التسامح في مجتمعنا ، غيابها داخل الأسرة الواحدة بدليل زيادة جرائم القتل الأسرية ،وتكرار جرائم التعذيب للابناء وزيادة جريمة عقوق الوالدين، وجريمة أكل الميراث بين الأخوة وحرمان النساء من حقهن فيه. ونلاحظ غيابها داخل مؤسسات العمل بانتشار الوشاية والتزلف والنفاق والكذب والتفنن في ايذاء الآخرين من أجل ترقية أو علاوة ، والتنكيل بالمعارضين للرؤساء في الرأي
وأخطر مظاهر غياب ثقافة التسامح نشهدها في الشارع حيث تندلع المشاجرات لأتفه الأسباب ، وغالبا ما تتسع سريعا بسبب حب الانتقام وتتحول إلى معارك تستخدم فيها أسلحة نارية ويسقط قتلى مصابين . وبسبب تراشق لفظي بين طفلين يتحول الجيران إلى أعداء وتنشب معركة دامية وتمتد الخصومة والمشاحنات لسنوات . وهناك مظاهر كثيرة لغياب ثقافة التسامح يضيق المجال عن ذكرها ويعلمها الجميع .
أرى أن أدنى درجات التسامح هو التسامح مع النفس بعدم تحميلها مالا تطيقه ، وأوسطها التسامح مع من حولك ، وأعلاها قبول الآخر والتسامح مع المختلفين معك في الرأي والمعتقد .
ما أجوجنا جميعا لدراسة وفهم وتطبيق الآية الكريمة : (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ).
aboalaa_n@yahoo.com