نشر معهد جيتستون الأمريكي تقريراً عزز المخاوف من انفلات الأوضاع في أفغانستان وسيطرة الإرهاب ممثلاً في حركة طالبان على الأوضاع مجدداً، حيث قال التقرير، إنه في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة لاستكمال انسحابها من أفغانستان بحلول نهاية أغسطس الجاري، يتزايد الشعور بالقلق من أن الخطوة الأمريكية لن تعيد طالبان إلى السلطة هناك فحسب، بل ستؤدي أيضاً إلى عودة ظهور جماعات إرهابية أخرى مثل القاعدة وداعش .
وتؤكد الوقائع على الأرض في تلك البلاد المنكوبة “أفغانستان” أن الأمريكيين أساءوا التقدير، عندما اعتقدوا أن الحرب على الإرهاب سوف تنتهى بانسحاب قواتهم من أفغانستان وربما سوف يدفعون ثمناً باهظاً إذا سمحوا بسقوط أفغانستان في أيدي الجماعات الإرهابية مجدداً، فلا فرق بين طالبان والقاعدة وداعش، فهذه الجماعات تتعاون مع بعضها، حتى ولو أظهرت غير ذلك أو حدث قتال وتصفيات فيما بينها، فحركة طالبان كانت تحمي تنظيم القاعدة في السابق ورفضت حتى تسليم زعيم التنظيم الراحل أسامة بن لادن إلى الولايات المتحدة أثناء إقامته في أفغانستان بحجة أن الأمريكيين لم يثبتوا علاقته بهجمات 11 سبتمبر 2001 .
وخلال أيام نجح مقاتلو طالبان في تضييق الخناق على شمال أفغانستان وسيطروا على عواصم خمس ولايات، الأمر الذي حدا بالكثير من الخبراء إلى أن يحذروا من أن تلك التطورات قد لا يوجد معها حل سياسي، وأن أفغانستان قد تدخل حربا أهلية طويلة الأمد، فلماذا كل تلك المخاوف والتحذيرات، وما مدى خطورة هذه الحركة التي تحمل إسم طالبان، وكيف احتفظت طوال 20 عاما من سيطرة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية على أفغانستان بكل تلك القوة، للدرجة التي تؤهلها للسيطرة على حوالي 85 في المائة من الأراضي الأفغانية، بمجرد بدء الإنسحاب الأمريكي من هناك ؟؟
ظهرت حركة طالبان أوائل تسعينيات القرن الماضي، شمالي باكستان، عقب إنسحاب قوات الإتحاد السوفيتي السابق من أفغانستان، وبرز نجم طالبان، التي إشتقت إسمها من أن عناصرها هم طلاب العلم في المعاهد الدينية، وأكثر عناصرها من عرقية الباشتون، في أفغانستان في خريف 1994، حيث بدأت في الظهور لأول مرة من خلال المعاهد الدينية، التي تمولها دولة عربية كبيرة” السعودية”، وتتبنى نهجاً دينياً محافظا .
ووعدت طالبان، التي توجد في مناطق الباشتون المنتشرة في باكستان وأفغانستان، بإحلال السلام والأمن وتطبيق صارم للشريعة بمجرد وصولها للسلطة .
وطبقت طالبان عقوبات وفقاً للشريعة مثل الإعدامات العلنية للمدانين بجرائم القتل أو مرتكبي الزنا أو بتر أيدي من تثبت إدانتهم بالسرقة، وأمرت الحركة الرجال بإطلاق لحاهم والنساء بارتداء النقاب، وحظرت مشاهدة التلفزيون والاستماع إلى الموسيقى وأغلقت دور السينما، ورفضت ذهاب الفتيات إلى المدارس إذا بلغن سن العاشرة .
وعلى الرغم من نفي باكستان مراراً ضلوعه في تأسيس طالبان، إلا أن العديد من الأفغان، الذين انضموا في بادئ الأمر إلى صفوف الحركة، تلقوا تعليما في المعاهد الدينية في باكستان، كما كانت باكستان أيضا واحدة من ثلاث دول فقط، بالإضافة إلى السعودية والإمارات، اعترفت بطالبان حينما وصلت للسلطة في أفغانستان في منتصف التسعينيات وحتى عام 2001، وكانت آخر دولة تعلن قطع العلاقات مع طالبان علنا، إلا أن العلاقات والدعم إستمرا سرا .
والمعروف أن ملا عمر الذي فقد عينيه خلال قتال القوات السوفيتية في ثمانينيات القرن الماضي، كان أول زعيم لحركة طالبان، واعترفت طالبان أنها أخفت لمدة عامين خبر وفاته، وفي سبتمبر عام 2015 أعلنت طالبان أنها توحدت تحت قيادة الملا منصور الذي كان نائباً للملا عمر لفترة طويلة، لكنه لقي حتفه في غارة لطائرة أمريكية بدون طيار في مايو عام 2016، ليحل نائبه المولوي هيبة الله أخنوزاده، وهو رجل دين متشدد، محله، وقتل على الأقل ثلاثة من أبرز قادة طالبان باكستان في غارات شنتها طائرات أمريكية بدون طيار، من بينهم الملا نظير .
دخلت حركة طالبان في أفغانستان بؤرة إهتمام العالم عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على مركز التجارة العالمي بالولايات المتحدة، واتهمت الحركة بتوفير ملاذ آمن في أفغانستان لزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن وأعضاء التنظيم الذين اتهموا بالمسؤولية عن هذه الهجمات، وبعد فترة قصيرة من هجمات سبتمبر، أطاح غزو التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بحكم طالبان في أفغانستان، لكن لم يتم إعتقال زعيم الحركة الملا محمد عمر، وبزغت طالبان من جديد خلال السنوات القليلة الماضية في أفغانستان، حتى أصبحت أكبر قوة في باكستان .
وكان حكيم الله محسود قائداً لفرع طالبان الرئيسي في باكستان، وأنحي باللائمة على حركته التي تعرف بإسم حركة طالبان الباكستانية، في ما يتعلق بتنفيذ عشرات الهجمات الانتحارية والهجمات الأخرى، وكان الأفغان، الذين شعروا بالقلق من زيادة أعداد المجاهدين على نحو مفرط والاقتتال الداخلي في أعقاب طرد السوفييت، قد رحبوا عموماً بطالبان عندما ظهرت على الساحة للمرة الأولى، ونمت شعبيتهم الأولى بدرجة كبيرة نتيجة ما حققوه من نجاح في القضاء على الفساد، والحد من الانفلات الأمني، وجعل الطرق والمناطق الخاضعة لسيطرتهم آمنة لازدهار التجارة .
وسرعان ما امتد نفوذ طالبان من جنوب غربي أفغانستان، واستولت على إقليم هرات الذي يحد إيران في سبتمبر عام 1995، وبعد عام تحديداً، استولوا على العاصمة الأفغانية كابول بعد الإطاحة بنظام حكم الرئيس برهان الدين رباني ووزير دفاعه أحمد شاه مسعود، وبحلول عام 1998، كانوا قد سيطروا على نحو 90 في المائة من أفغانستان، وفي السابع من أكتوبر 2001، غزت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة أفغانستان، وبحلول الأسبوع الأول من شهر ديسمبر انهار نظام طالبان، ولاذ الملا عمر ومساعدوه بالفرار، ويعتقد أنهم لجأوا إلى مدينة كويتا الباكستانية التي كانوا يوجهون منها حركة طالبان، لكن إسلام أباد نفت وجود ما يعرف باسم “شورى كويتا” .
وعلى الرغم من وجود أكبر عدد على الإطلاق من القوات الأجنبية في تاريخ البلد، استطاعت طالبان توسيع نطاق نفوذها على نحو مطرد، مما جعل مساحات شاسعة من أفغانستان غير آمنة وعاد العنف في البلاد إلى مستويات لم تشهدها منذ عام 2001، وأدى تراجعهم خلال السنوات العشر الماضية إلى الحد من خسائرهم البشرية والمادية والعودة بروح الثأر، وكان هناك العديد من الهجمات التي شنتها طالبان على كابول خلال الأعوام الأخيرة، كما نفذت في سبتمبر عام 2012، غارة كبيرة على قاعدة كامب باستيون التابعة لحلف شمال الأطلسي “الناتو”، وفي الشهر نفسه سلم الجيش الأمريكي السلطات الأفغانية الإشراف على سجن باغرام المثير للجدل الذي يضم ما يزيد على 3 آلاف مقاتل من طالبان وإرهابيين مشتبه بهم .
ويبدو أن طالبان التي انهارت رسمياً، ظلت تحافظ على مقومات بقائها وقوة مقاتليها، الذين لم يعدموا الوسيلة لمواجهة التسليح والتدريب، سواء من جانب باكستان أو غيرها، ربما استعداداً للقفز مرة أخرى على مقدرات الأمور في أفغانستان والقيام بأدوار جديدة مرسومة من جانب قوى كبرى لا تريد لتلك المنطقة من العالم استقراراً، حتى ولو كان الثمن مزيد من الدماء والدمار .